Middle East Watch
La revue de presse alternative pour un Moyen Orient libre
© تموز (يوليو) 2022
الأربعاء 12 محرم 1428, بقلم
كل اصدارات هذا المقال:
يلخص سمير أمين الأسس التي قام عليها النظام الدولي بعد الحرب العالمية الثانية بثلاثة أسس هي : دولة الرفاه في الغرب، والسوفياتية في الشرق، ومشروع التنمية القومية في الجنوب (نقد روح العصر – دار الفارابي ط١ ١٩٩٨). وقد انهارت هذه الأسس تباعاً، فانهار أولاً مشروع التنمية القومية في الجنوب، ثم الدولة السوفياتية، وبقيت دولة الرفاه في الغرب تنازع الفناء في بعض الأماكن وتنهار في أماكن أخرى، وإذا أردنا أن نذكر اسم دولة تلقى محاولات تفكيك دولة الرفاه الاجتماعي أقصى درجات المقاومة فعلى الفور يحضر على اللسان اسم فرنسا، فهذا البلد يتميز بوعي سياسي عالي لأنه وريث تقاليد الثورة الفرنسية و عصر الأنوار، ولديه حركة نقابية وطلابية ذات تراث نضالي كبير، كما أنه ينظر إلى نفسه كقطب عالمي يتحدى الأمركة خاصة في المجال الثقافي، ويحاول ذلك بغير نجاح كبير في المجال السياسي منذ عهد الجنرال ديغول إلى عهد تكراره الكاريكاتوري شيراك.
لكن يبدو أن الهوس أو الفيروس الليبرالي (حسب تعبير سمير أمين نفسه) قد تمكن من الفتك بالديغولية التي تشكل عماد السياسة الفرنسية بل الأوربية المستقلة عن أمريكا، هذا ما يشير له حدث ترشيح وزير الداخلية ساركوزي، أو ساركوزي الأمريكي كما يسميه بعض المعلقين السياسيين في فرنسا، كممثل لليمين الديغولي في انتخابات الرئاسة الفرنسية القادمة.
يمكن القول براحة ضمير أن ساركوزي هو مزيج من توني بلير و بيرلسكوني رئيس وزراء ايطاليا السابق. فهو كبلير ينظر بإعجاب كبير للنموذج الأمريكي ويعتبر أن مستقبل أوربا متوقف على تبني هذا اقتصادياً وسياسياً، فقد صرح علناً أنه يختلف مع شيراك من موقفه العراقي عام ٢٠٠٣، وخلال صيف ٢٠٠٦ أيد بدون تحفظ الهجوم الصهيوني على لبنان، وقبل أيام أدلى بتصريح شبه أمريكي حول ايران.كما أنه كبرلسكوني مدعوم من امبرطورية إعلامية ضخمة استطاع أن يبني علاقات ود مع أباطرتها خلال سنوات طويلة، فقد تبادل الخدمات معهم في كل المناصب التي استلمها منذ كان رئيساً للمجلس العام لمقاطعة السين العليا وهي الأغنى في فرنسا، ثم وزيراً للمالية، وبعدها للداخلية. وللدلالة على عمق الحلف غير المقدس بينه وبين امبرطورية الإعلام نشير إلى أن مدير مجلة "باري ماتش" طرد من منصبه لأنه تجرّأ ونشر صورة لزوجته مع صديقها في حزيران ٢٠٠٦ (لوموند ايلول ٢٠٠٦ - أوليغارشيا الإعلام تتوّج ساركوزي سلفاً). كما يشير السيد فرنسوا هولاند، السكرتير الأوّل للحزب الاشتراكي، إلى الغرام بينه وبين وسائل الإعلام. فما من رجلٍ سياسيّ آخر دُعيّ ثلاث مرّات إلى برنامج "١٠٠ دقيقة للإقناع" على محطة "فرنسا ٢"". وفي كلّ مرّة يكون المشاهدون على الموعد (بين ٤ و٦ ملايين مشاهد)، كما يترجم هذا الغرام بينه و بين وسائل الإعلام بالأرقام "فمنذ عودته إلى وزارة الداخلية في ايار/مايو ٢٠٠٥، حاز السيّد ساركوزي على اهتمامٍ شهريّ بمعدّل ٤١١ مقالاً مقابل ٢٢٠ لدومينيك دو فيلبان" " لوموند نفس العدد السابق".
و بمحصلة الأمر إذا كنت مزيجاً من بلير وبيرلسكوني فمن البديهي أن تكون أمريكياً وصديقاً للأغنياء، أي أن تكون ليبرالياً جديداً، وبرنامجك الاقتصادي سيكون معروفاً، فالسيد ساركوزي يرى أن مشكلة الفقراء تكمن بأنهم فقراء متخلفون، همج، حثالة، كما وصف المنتفضين من أبناء الضواحي، وبالتالي لا حاجة لتقديم أية مساعدة لهم، فليتدبروا تعليمهم وطبابتهم وأمنهم ومعيشتهم، والتدخل الوحيد الذي يقترحه هو التدخل الأمني حسب ما يرى السيد ساركوزي وأمثاله من الليبراليين من أجل أن يتحرر رأس المال العولم من عبء الأجور و الضمانات الاجتماعية و يتمكن من المنافسة في الخارج. مما يعني أن تفكيك دولة الرفاه الاجتماعي التي قامت بعد الحرب العالمية الثانية صار ضرورة ملحة ليتمكن رأس المال الفرنسي والأوربي المعولم من المنافسة.
لكن هل يحتمل الوضع الفرنسي سياسات ساركوزي الليبرالية ؟
هناك عدة مؤشرات خلال العام الماضي تدل على أن المجتمع الفرنسي يتجه لرفض الليبرالية المعولمة التي يقدمها ليس ساركوزي الأمريكي فقط، بل وشيراك الديغولي وتلميذه دوفيلبان، أيضاً، بعد أن استحما بماء الليبرالية البارد فأعطبا الديغولية في زمان تبدو أوربا بأشد الحاجة إليها. إذ رفض الفرنسيون الدستور الأوربي المعولم الذي لا يقيم اعتبارا سوى لمصالح رأس المال ويجرد السلطات الوطنية المنتخبة من سلطاتها لصالح مؤسسات بيروقراطية غامضة لا سلطة للمجتمع عليها. ثم انتفضت الضواحي ضد التهميش وهو عرض أساسي للسياسات الليبرالية، وبعدها انتفض الشباب والطلاب ضد قانون عقد العمل الأول الذي يجردهم من كل حماية قانونية يتمتعون بها ويتركهم عراة أمام أصحاب العمل. أما بالنسبة لمستقبل الإتحاد الأوربي فإن صعود أمثال ساركوزي إلى سدة الحكم في أوربا سيطيح بالمشروع الأوربي المستقل لصالح المشروع الأطلسي، أي أوربا تحت المظلة الأمريكي، يقول سمير أمين: "تمثل الليبرالية اليوم تحدياً خطيراً للبشرية، جمعاء، حيث تهددها بالإفناء الذاتي. وفي الوقت نفسه لا تستطيع الليبرالية المعولمة إلا تدعيم السيطرة الإمبريالية الأمريكية على مجموع الكوكب، باستتباع أوربا، وإخضاع بقية العالم بوسائل وحشية لم يسبق لها مثيل في التاريخ، للنهب، دون استبعاد الإبادة الجماعية إذا لزم الأمرز" (الفيروس الليبرالي الحروب الدائمة و أمركة العالم – سمير امين – دار الفارابي – ط١ ٢٠٠٤).
وحسب سمير أمين إن التفاف الدول الأوربية حول المفاهيم الليبرالية يعني حكماً اختفاء الاستقلال العسكري والاقتصادي الأوربي والخضوع للسيطرة الأمريكية (نموذج بريطانيا و بولونيا).
أما البديل عن كل ذلك فهو القطيعة مع السياسية الليبرالية، وإعادة بناء أقطاب جديدة في السياسات الدولية، والاستفادة من الفرصة النادرة التي يمنحها الغرق الأمريكي في المستنقع العراقي لبناء أوربا جديدة، اجتماعية، مستقلة سياسياً و اقتصادياً، وحليفة موضوعياً لمعسكر التحرر والمقاومة في العالم الثالث ورأس هذا المعسكر يقع في الوطن العربي. وقد رأينا أمريكا اللاتينية تفعل ذلك فتضع اللبنة الأولى لبناء نظام علاقات دولي جديد عبر تحررها من الهيمنة الأمريكية سياسياً واقتصادياً، وذلك عبر القطيعة مع السياسات الليبرالية الاقتصادية، كما نرى في فنزويلا وبوليفيا اليوم. أما أوربا فيبدو أنها تسير عكس منطق التاريخ اليوم و تفضل التبعية لأمريكا على أن تكون مستقلة وحرة، فهل هرمت بفعل شيخوخة حضارتها وإفلاسها، كما ينقل غسان الرفاعي عن غارودي، إذ يقول: "أنا غربي من رأسي إلى أخمص قدمي، غربي في جذوري، في ثقافتي، في اعدادي التربوي، لكني أعترف أن الغرب قد أفلس".
ويقترح غارودي على الغرب أن يصغي إلى الحضارات الأخرى التي تقدم حلولاً أكثر إنسانية من حضارته المتفوقة بالقتل والتدمير فقط (جريدة تشرين السورية العدد ٩٧٦٥ ١٤ كانون الثاني ٢٠٠٧ – العجوز المتمرد و طليعة الإنحطاط – غسان الرفاعي).
فهل تسمح فرنسا المجتمع بإطلاق رصاصة الرحمة على المشروع الأوربي المستقل و تلتحق كتابعة لأمريكا المتهاوية المفلسة المهزومة. أم تنتفض وتفتح لنفسها أفق تاريخي جديد عبر إصغائها لحضارات الجنوب هذا ما سنراه في الانتخابات الفرنسية القادمة، وأنا اعتقد أن نتيجة معركة العراق سيكون لها تأثير كبير على خيارات الفرنسيين.
أخيراً إن نزعة الالتحاق بأمريكا كتابع هي نزعة عميقة الجذور في أوربا و تطفو على السطح أكثر ما تطفو في أوقات الأزمات، وهي بالمناسبة اتجاه عابر للأحزاب لا يفيد معه التصنيف الحزبي التقليدي فقد يكون المرء اشتراكياً وموالياً للأمريكان وقد يكون يمينياً في نفس الموقع، وبالعكس فقد نجد اشتراكياً أو يمينياً يصطفان معاً في الموقع المناهض لأمريكا و الداعي لسياسة أوربية مستقلة. وبمناسبة الحديث عن نزعة التبعية في فرنسا نشير إلى أن "البي بي سي" قد نشرت وثائق من الأرشيف البريطاني تفيد أن رئيس الوزراء الفرنسي السابق غي موليه زار نظيره البريطاني انتوني ايدن في لندن في خمسينات القرن العشرين بعد خسارة حرب السويس، لمناقشة إمكان قيام اتحاد بين بلديهما تحت حكم التاج البريطاني (الحياة ٢٠٠٧/١/١٦) وعندما رفض البريطانيون هذا العرض وقدموا له عرضاً بأن تنضم فرنسا إلى دول الكومنولث لم يجد دي مولييه أي غضاضة في هذا العرض، أي أن يصبح عضواً في ناد يضم مستعمرات بريطانيا السابقة. لكن فرنسا ذلك الوقت تمردت على نزعة التبعية هذه فأتت بديغول وسياسته الأوربية المعروفة.
كنعان - العدد ١٠٥٤ - ٣٠ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٧