Middle East Watch
The alternative press revue for a free Middle East
© تموز (يوليو) 2022
الله هو الذي أرسلنا ... الله هو الذي يحمينا
انهم يهربون من بلادهم في الشرق ليعيدوا زرعها في الغرب
الاثنين 19 محرم 1437, بقلم
كل اصدارات هذا المقال:
لعل التطور الجديد الأهم في الحرب السورية المستمرة منذ خمس سنوات، موجات اللاجئين الزاحفين الى أوروبا بحراً وبراً بمئات الألوف من الشباب والنساء والأطفال، قاطعين آلاف الأميال من البر التركي الى جزر اليونان القريبة، ومن هناك الى مقدونيا، ومشياً على الأقدام باتجاه بلاد الصرب، ليعبروا منها الى دولة المجر القريبة، ومنها الى النمسا، قاصدين ألمانيا، متدافعين الى هناك بفعل ما أشيع بينهم بأن الحكومة الألمانية فتحت أبواب الهجرة اليها على مصراعيها. لكن هذا الطوفان البشري الزاحف من الجنوب والشرق باتجاه الشمال والغرب، أحدث صدمة في الدول الأوروبية التي استفاقت على مشهد «توراتي» ليس له نظير إلاَّ في كتب التاريخ، يوم سقطت الإمبراطورية الرومانية في الغرب، خلال النصف الثاني من القرن الخامس الميلادي، فزحفت نحوها جحافل من «البرابرة الهونيين» المتمددين من تخوم الصين عبر السهوب اليوراسية الواسعة باتجاه بلاد المجر، فدقوا أبواب روما نفسها بقيادة أتيللا الهوني الذي انكفأ عن تلك الحاضرة البهية بعدما قدَّم له البابا ليو الأول في لقائهما بالقرب من ميلانو رشوة من الذهب سال لها لعابه فعاد ليستقر في المجر ... يا للمصادفة!
بلاد المجر التي اتخذت اسمها الراهن، «هنغاريا»، من دمج الشعب الهوني مع الشعب المجري، منذ ذلك الوقت، هي الآن المفترق الذي تتوزع منه الموجات البشرية الزاحفة من الجنوب البائس والمضطرب، فتحاول صدَّ هذا الزحف بالأسلاك الشائكة ومعسكرات الاعتقال بحجة الدخول غير الشرعي... يا للمفارقة.
وكذلك الأمر بالنسبة الى الزاحفين اليها من الشمال والشرق أمثال «القوط» و«الفاندال» و«السكسون»، البائسين والجائعين، يدقون أبوابها تجذبهم اليها حالة البحبوحة الطافحة فيها الى حدِّ التخمة.
وفي الأفق السياسي والعسكري الملبَّد بغيوم كثيفة، ويلفُّ الأزمة السورية من كل الاتجاهات، ترتسم تساؤلات كثيرة تحمل في باطنها الشكوك والظنون المقلقة حول المصير المرتقب لشعوب الشرق والغرب معاً، وحول كيفية النفخ في أبواق التدافع الى الهجرة شمالاً، وهوية النافخين في تلك الأبواق.
ولتفكيك هذه التعقيدات المتداخلة، بغية فرز خيوطها المعربسة بهدف تحليلها وفهمها، لا بد من القول أن هذه الموجة الزاحفة الآن ليست كلها عفوية. فهناك جهات أطلقتها. وهناك إعلام دقَّ على وترها ونفخ في بوقها. وهناك من موَّلها وزوَّدها بالقوارب المطاطية للعبور بين البر التركي والجزر اليونانية القريبة. وهناك من جهَّز قوارب الإنقاذ التي تجوب بحار تلك البقعة مزوَّدة بأجهزة الرادار التي ترصد حركة تلك القوارب لترافقها الى برِّ الأمان.
وبطبيعة الحال، فإن البداية هي من نقطة الانطلاق. أي من مخيمات اللاجئين في تركيا على مقربة من الحدود السورية. وتركيا هي، بشكل أو آخر، جزء من البر الأوروبي ومتصلة به. ولا يغرب عن البال أبداً أن مخيمات للاجئين نُصبت داخل تركيا قبل فترة قصيرة من نشوب الصراع العسكري على الأرض السورية، وعندما انكشف أمرها خلال الحرب، قيل إنها تتسع لنحو عشرة آلاف لاجىء.
ثم بدأت أعداد اللاجئين الى دول الجوار تتزايد، وكذلك أعداد المخيمات، حتى ناءت تلك الدول بأعبائهم، وبالمخاطر الأمنية المترتبة على ذلك.
ومن نافل القول إن تركيا هي المعبر الأسهل باتجاه أوروبا، أسهل بكثير من الأردن والعراق ولبنان. ومع ذلك، فقد نجحت أعداد غير معروفة انطلقت من الأراضي العراقية باتجاه تركيا كمحطة أولى لبلوغ أوروبا. وقام البعض في لبنان بركوب البحر الى الشواطىء التركية أيضاً للغاية ذاتها. وإذا كان النزوح من لبنان والعراق على مرحلتين، فإن النزوح من الأردن سيكون بحكم الجغرافيا على ثلاثة مراحل وهو الأمر الأصعب.
انطلقت الموجة بخزعبلة إعلامية طنطنت لها كل وسائل الإعلام في العالم، وهي قصة الطفل الكردي إيلان الذي جرى تصوير جثته على البحر وبكامل ملابسه لإظهار الأمر بأنه مأساة إنسانية باعتبار أنه سقط من زورق ولفظته أمواج البحر الى الشاطىء. ومع أن حقائق مغايرة ظهرت تالياً، لكن ذلك لم يسمعه أحد. ثم بدأت وسائل الإعلام إياها تتباكى على تلك المأساة، وتؤكد للقريب والبعيد أن قلوب الشعوب الأوروبية قد تفطَّرت على ذلك الطفل الكردي البريء الذي لفظه البحر، بحيث أنها ضغطت على حكوماتها بغية استقبال اللاجئين، وراحت تلك الحكومات تزايد على بعضها البعض، حتى أن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل خرجت عن طورها في هذه الحمأة لتعلن عن استعداد حكومتها لاستقبال ٨٠٠ ألف لاجىء سوري، ثم حاولت التراجع فيما بعد تحت وطأة تعاظم الموجة بفعل إشاعة خبر فتح ألمانيا لباب الهجرة اليها من دون قيود، من خلال إقناع الدول الأوروبية الأخرى بتقاسم الأعباء.
إذن، من البداية هي حالة إعلامية قبل أن تكون حالة إنسانية. وليس خافياً على أحد كيف يجري تلفيق الحالات الإعلامية على هذا النطاق العالمي الواسع. فكيف تتفطر قلوب الأوروبيين على طفل واحد من أكراد سوريا، ولا تتفطَّر على مئات الأطفال اليمنيين الذين يموتون كل يوم تحت أنقاض منازلهم بفعل القصف الجوي المتواصل منذ ستة أشهر؟
انتظروا في السنوات المقبلة موجة الهجرة من اليمن!
والسؤال الأهم الذي يتبادر الى الأذهان للوهلة الأولى هو، لماذا يحدث كل ذلك الآن مع أن الأزمة السورية بكل فظاعاتها ومآسيها صار لها على الأرض وعلى الشاشات الإعلامية قرابة الخمس سنوات؟
قد يكون الجواب في هوية الطفل الكردي الذي لفظته أمواج البحر ليطلق أمواج الهجرة عبر الأراضي التركية والمياه اليونانية. هي في جانب منها هجرة معاكسة إذا صح التعبير. بمعنى أن تركيا التي شرَّعت أبوابها لدخول آلاف الإرهابيين الإسلاميين الوافدين الى سوريا من كل أصقاع الأرض، ومنها على الأخص الأصقاع الأوروبية، هي التي تشرِّع أبوابها الآن في الاتجاه المعاكس. وهناك خشية حقيقية في أوروبا من أن تعيد اليهم تركيا أفواج الإسلاميين تحت ستار اللجوء السوري، على قاعدة «هذه بضاعتكم رُدَّت اليكم»!
ومما لا شك فيه أن الاستخبارات التركية، بتعليمات من الرئيس رجب طيب أردوغان، هي التي دفعت بهذا الاتجاه بحجة معلنة هي أن تركيا قد تكبدت خسائر مالية وبيئية لا تقل عن عشرة مليارات دولار من جراء استقبالها للاجئين السوريين، وأن الدول الأوروبية المانحة لم تقدم لها القدر الموازي من المساعدات. هذه حجة، قد يكون فيها شيء من الصحة، لكنها
غير كافية كذريعة لتشريع الأبواب.
القصة التركية في جوهرها تكمن في المسألة الكردية وتجدد الصراع مع الأكراد على نطاق أوسع هذه المرة يشمل الأراضي التركية في الأناضول، وفي المدن التركية، ويشمل شمال العراق، وشمال شرق سوريا. فقد استمات أردوغان من أجل إقامة منطقة عازلة على الحدود التركية مع سوريا، لكن الدول الغربية لم تتجاوب معه. ناهيك بأن المسألة الكردية لها رعاية قديمة في الغرب، وخصوصاً في أوروبا، وكانت من الأسباب المانعة لإدخال تركيا في الاتحاد الأوروبي. وليس صعباً، بالتالي، معرفة الجهات التي موَّلت لتسهيل هذه العملية. هي ذاتها الجهات التي موَّلت وأججت الحرب السورية. التقدير الذي أجرته بعض المراجع الغربية، مثل مجلة «تايم» الأميركية، يفيد بأن كلفة وصول اللاجىء الواحد من السواحل التركية الى السواحل اليونانية تتراوح بين ألف دولار في المراكب الخطرة التي يجري تحميلها فوق طاقتها لزيادة الدخل، وبين أربعة آلاف دولار في المراكب الآمنة المؤكد وصولها الى بر الأمان. فإذا أخذنا الرقم الذي أعلنته أنجيلا ميركل، وهو ٨٠٠ ألف لاجىء، وأخذنا المعدل الوسطي لكلفة النقل بحدود ٢٥٠٠ دولار، فتكون كلفة النقل البحري وحدها في هذا الحساب، نحو المليارين من الدولارات، وهو رقم لا تستطيع توفيره سوى دول مليئة!
الدول الأنكلو سكسونية، الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا وأستراليا، كان صوتها خافتاً مع تزايد الضغوط على أوروبا الغربية. هم يأخذون الزبدة من اللاجئين. يأخذون العلماء والمهندسين والمثقفين والباحثين والأطباء والفنيين. يأخذون النخب ويتركون الغالبية العظمى من البائسين للآخرين.
الخزعبلة الإعلامية الثانية هي التي روَّجت بأن هذه الجموع الغفيرة من اللاجئين المغامرين بحياتهم للوصول الى الجنَّات الموعودة في أوروبا، هم كلُّهم من السوريين الهاربين من جحيم الحرب ومن البؤس الذي خلفته في ديارهم وفي دول اللجوء القريبة. هذه أيضاً كذبة كبيرة. صحيح أن عديد السوريين اللاجئين يفوق أعداد اللاجئين من الجنسيات الأخرى، لكن السوريين بينهم لا يتجاوزون النصف، أو حتى ٤٠ في المائة. فعندما دق النفير وأذيع عن فتح الأبواب، نفرت الى تركيا جموع من أقاصي آسيا وإفريقيا. من أفغانستان وباكستان، ومن جنوب ووسط آسيا شرقاً، الى مصر وتونس وليبيا ومالي واريتريا ونيجيريا غرباً. كلهم ادعوا أنهم لاجئون سوريون، والذين دخلوا دخلوا، قبل أن تتنبه السلطات الأوروبية للأمر وتفتح مراكز للتسجيل والتدقيق في هويات طالبي اللجوء.
لكن حجم هذه الهجرة وكثافتها وسرعتها الصاعقة، وربما المدبَّرة، بدأت تتفاعل سياسياً في طول القارة الأوروبية وعرضها. فعندما تسرَّعت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ورفعت السقف، بإعلانها عن استعداد ألمانيا لقبول مئات الألوف من هؤلاء اللاجئين، اتخذت حجة من المزاج الإنساني العام في أوروبا بقولها إن إوروبا إذا لم تقبل هؤلاء اللاجئين البائسين، فإنها تتنكر لوجدانها الحضاري، فلا تعود هي أوروبا. أما اليمين الأوروبي شبه العنصري، فلديه الحجة ذاتها في الاتجاه المعاكس القائل أن أوروبا إذا استقبلت هذه الموجات التي لا تنقطع من المهاجرين، فإنها بالفعل لا تعود أوروبا. تصبح شيئاً آخر. وخلاصة هذه الحجة هي أن جميع هؤلاء اللاجئين، أو الغالبية العظمى منهم، هم من المسلمين. والتجربة الأوروبية القائمة الآن، سواء في فرنسا بالنسبة الى الجزائريين والمغاربة، وفي بريطانيا بالنسبة الى الآسيويين، وفي ألمانيا بالنسبة الى الأتراك، تفيد بأن المهاجرين المسلمين في غالبيتهم لا يقبلون العيش حسب معايير البلدان الأوروبية وأعرافها، وبالتالي فإنهم يشكلون «غيتوات» منفصلة عن المجتمع الأوروبي، تضعفه وتقوِّضه إذا تفاقمت. فكل مجموعة تأتي وتجلب معها بلادها التي هي في الأصل هاربة منها. تهرب منها في الشرق لتعيد زرعها في الغرب.
هذه الإشكالية بلغت حد مطالبة المسلمين الآسيويين في بريطانيا نهاية السبعينات بإنشاء برلمان إسلامي للمسلمين في بريطانيا، مما أعطى انطباعاً بأنهم يرفضون سلطة برلمان وستمنستر القابل بعضويتهم إذا انتخبهم الناخبون. وعندما أثار رئيس الحكومة البريطانية آنذاك، جيمس كالاهان، مسألة التعدد الثقافي بقوله إن المجتمع البريطاني هو مجتمع متعدد الثقافات، طلع من يرد عليه بالقول: «من قال لك إننا نريد أن نكون مجتمعاً متعدد الثقافات. نحن مجتمع لنا ثقافة اسمها الثقافة الأنكلو سكسونية التي أصبحت ثقافة شبه عالمية، فمن أراد تبنيها والانتساب اليها فأهلاً وسهلاً به، ومن لا يريد ذلك فليرجع من حيث أتى ليمارس حياته وثقافته كما يريد».
وبين المهاجرين من يستحضر الماضي الاستعماري للدول الأوروبية بالقول: «هم احتلونا وحكمونا لمئات السنين، فلماذا الغرابة في أن نحتلهم ونحكمهم»! وفي الرد على المستشارة الألمانية قال الزعيم الهولندي غيرت فيلدرز، الذي ينتمي الى أقصى اليمين: «موجة اللاجئين التي تتدفق على أوروبا هي غزو إسلامي. حشود من الشبان الملتحين في العشرينات من العمر تهتف الله أكبر في أنحاء أوروبا. إنه غزو يهدد رخاءنا، وأمننا، وثقافتنا، وهويتنا».
وعلى المقلب الآخر من المشهد، أي على المقلب الإسلامي، هناك دعوات تنبىء بأن القضية ليست مجرَّد قضية هاربين من الحرب، أو لاجئين بائسين قاصدين تحسين ظروفهم وأحوالهم الاقتصادية، بل هي مسألة تغيير ديموغرافي متعمد ومقصود بدأ منذ ربع قرن بتشييد عدد كبير من المساجد في الربوع الأوروبية لا يتناسب مع الكتل السكانية، وبتمويل من دول خليجية معيَّنة. وعندما وافقت ألمانيا على استقبال أعداد كبيرة من اللاجئين، عرضت دولة خليجية كبرى بناء ٢٠٠ مسجد لهؤلاء الوافدين، مما أثار حنق أوساط واسعة في المجتمع الألماني، لأنه كان بإمكان تلك الدولة الخليجية أن تساعدهم بطريقة تجعلهم آمنين في ملاجئهم الأصلية في لبنان والأردن والعراق وتركيا.
وقد جاء في مقال على مواقع التواصل الاجتماعي موجه «الى الواثقين بحكمة الله» أن اللاجئين يتوافدون براً وبحراً وجواً بمئات الألوف «قهراً ورغماً عن أنف أوروبا، ويأخذونهم على حين غرَّة». ومما جاء في هذا المقال أيضاً: «سمحت أوروبا بزواج المثليين وتلك من حكمة الله وعدله، لينقطع نسل الفجَّار الى الأبد، فيرسل سبحانه هؤلاء المهاجرين لتلك البلاد فيزداد نسل المسلمين في أوروبا ليصبح أعلى من نسب الشر والفساد. ومن يدري لعلنا نسمع بإعلان بعض الدول إسلامها؟»!
هذا ليس فقط كلاماً من الخارج. بعض الأفارقة الوافدين على ظهر الموجة السورية، عندما سئل كيف ولماذا خاطر بحياته وألقى بنفسه في اليم باتجاه المجهول، أجاب: «الله أرسلنا، والله هو الذي يحمينا». فالمسألة في هذا السياق تتعدى الهروب من خطر الحرب، أو البحث عن فرص اقتصادية أفضل. بل إن الدولة السورية ذاتها قد يكون لها ضلع في دفع حملة اللجوء باتجاه أوروبا، سواء بدس النظام جماعات له فيها، أو باستغلالها لمآربه. وقد ألمح الى ذلك النائب في مجلس الشعب السوري خالد العبود » الإخبارية السورية « في حديث له على تلفزيون بدمشق حيث قال إن الاستخبارات السورية ليست غافلة عما جرى ويجري في حركة اللجوء، من غير أن يحدد أوجه تدخل الاستخبارات السورية في الأمر.
وهذا، في أغلب الظن، صحيح. لأنه يفسِّر سرعة انقلاب المواقف الدولية المطالبة برحيل الرئيس بشار الأسد والتأكيد على أن الرئيس السوري سيكون مشاركاً في المرحلة المقبلة. وقد ورد مثل هذا التأكيد في الآونة الأخيرة على لسان معظم المسؤولين الغربيين الذين كانت المستشارة الألمانية ميركل أوضحهم، وهي في خضم أزمة قبول اللاجئين. وليس مستبعداً أن تكون موجة اللجوء هي الشرارة أو الإشارة لانطلاق «مسيرة التكويع» الطويلة في المواقف الدولية، كونها فرضت أمراً واقعاً ضاغطاً على زعماء العالم من أجل البدء بإيجاد حل للأزمة السورية كسبيل لوقف موجة النزوح. والمعادلة تبدو مقنعة: إنه من الأفضل أن يبقى في أرضهم أو في مخيمات الجوار الى أن يحين وقت إعادة الإعمار في بلادهم فتستوعب الجميع بمن فيهم اللاجئون الجدد، لأن ذلك أقل كلفة بكثير من بقائهم واستيعابهم في المهاجر الجديدة، وخصوصاً في المهاجر الأوروبية.
وسواء كان تدافع المهاجرين الى أوروبا، حالة مفتعلة لأغراض تتعلق بنشر العقائد الدينية، أو طلباً للأمان هرباً من الحرب، أو لجوء لأغراض اقتصادية، فإنه يشكل ظاهرة من شأنها إذا استمرت تغيير الواقع الديموغرافي في العالم، وخصوصاً في الغرب.
فالدول الصناعية في الغرب «شاخت» بسبب قلة إنجاب الأطفال من جهة، وبسبب إطالة عمر المسنين بفعل التقدم العلمي. فقد فاق عدد المسنين عدد الشبان والرجال العاملين، بحيث باتت الأجيال الجديدة المتناقصة العدد عاجزة عن تقديم الخدمات لبقية شرائح المجتمع. وهذه من النقاط الدافعة الى تشجيع هجرة الأيدي العاملة الشابة من البلدان الفقيرة الكثيرة السكان العالية الإنجاب، وأغلبها من الدول الإسلامية، الى الدول الصناعية في الغرب. وكانت الموجة الإسلامية الأولى الى أوروبا من تركيا الكمالية الى ألمانيا الغربية بهدف إعمارها من جديد بعدما تدمرت في الحرب العالمية الثانية.
وفي المقابل يطال التغيير الديموغرافي عينه الدول المصدِّرة للمهاجرين، إما بفعل الحرب والدمار، أو بفعل الفقر والبؤس والتخلف. ومن نتائج هذه الهجرة أن تلك المجتمعات النامية أصلاً تفقد جزءاً كبيراً من الأيدي العاملة والكفاءات والعقول اللازمة للتنمية المستدامة، فتزداد تخلفاً وفقراً لزمن طويل قد يمتد الى جيل أو جيلين.
على أن المسرح الأهم للتحركات الديموغرافية يبقى المسرح الأوروبي بسبب حساسيته باعتباره وسط العالم منذ أقدم الأزمنة، وقد شهد سوابق عديدة وخطيرة من هذه الانزياحات المتدافعة موجة بعد موجة. وقد تم تشخيص هذه المسألة تشخيصاً دقيقاً في معرض درس وتحليل أسباب سقوط الإمبراطورية الرومانية في الغرب، ثم الإمبراطورية الرومانية الشرقية )البيزنطية( بعد أكثر من ألف سنة على أيدي الموجات البشرية التركية الوافدة من أواسط آسيا.
فالمؤرخ البريطاني المشهور إدوارد غيبون في كتابه الكلاسيكي الصادر قبيل الثورة الفرنسية في أواخر القرن الثامن عشر، أي قبل ٢٣٥ عاماً، بعنوان «تاريخ انحلال وسقوط الإمبراطورية الرومانية»، خصص في المجلد الرابع منه فصلاً خاصاً بالعبر المستقاة من ذلك السقوط للإمبراطورية الغربية عنوانه: «ملاحظات عامة حول سقوط الإمبراطورية الرومانية في الغرب»، تصوَّر فيه القارة الأوروبية على اختلاف شعوبها ونظمها وقوانينها بأنها «جمهورية واحدة عظمى».
وقال غيبون في هذا الفصل المستخلص للعبر: «إن الأمم المتوحشة في العالم هي العدو المشترك للمجتمع المتمدن. ولنا أن نستقصي، ولو على سبيل الفضول المتلهف، ما إذا كانت أوروبا ما زالت مهددة بتكرار تلك النكبات والكوارث التي كسرت سابقاً وغلبت سلاح روما ومؤسساتها».
وتحدث المؤرخ البريطاني عن حالات الهجرة الطارقة على أبواب روما من موجات متعاقبة من نزوح شعوب فقيرة طامعة بالغزو، فقال: «طوابير غير متناهية من البرابرة أخذت تضغط على الإمبراطورية الرومانية بثقل متزايد. فإذا انحسرت موجة لحقتها موجة أخرى، لتملأ الفراغ الذي تركته سابقتها. إن مثل هذا التدافع الغ بَّال لم يعد ممكناً من الشمال. فقد تأقلمت شعوب الشمال مع الحضارة الأوروبية بتأثير التمدن الألماني والممالك المسيحية في الدانمارك والسويد وبولندا».
واعتبر غيبون أن اعتناق روسيا للمسيحية وتمدنها قد حمى أوروبا لجهة الشرق الى الأبد، لكنه لم يعتبر أن ذلك نهاية المطاف، لأنه، كما قال: «لكن هذا الأمن الظاهري يجب أن لا يغرينا بنسيان وجود أعداء جدد ومخاطر مجهولة من الممكن أن تنشأ من قبل شعوب مغمورة غير مرئية على خريطة العالم. فالعرب، الذين عاشوا دهوراً في الفقر والبؤس، أقاموا إمبراطورية امتدت من الهند الى إسبانيا، عندما جاء محمد ونفخ في تلك الكيانات القبلية المتوحشة روح الحماس والجهاد». وبذلك اعتبر المؤرخ البريطاني أن الخطر الداهم على أوروبا ما زال ممكن الهبوب من الجنوب العربي، لكنه أكد في الوقت ذاته أن أوروبا، الجمهورية العظمى، لن تسقط حتى لو سقطت ظاهرياً، لأنها فرَّخت «أوروبا جديدة» عبر الأطلسي في القارة الأميركية وأسماها «أوروبا عبر الأطلسي» التي يمكنها أن تستعيد الجمهورية الأوروبية الى رونقها التاريخي. وقال إنه في حال نجاح أي غزو من هذا النوع، فإنه يكفي عشرة آلاف سفينة لنقل العقول الأوروبية الى أميركا لكي يقلبوا المعادلة من جديد!
وقال غيبون إنه لو لم ينتصر شارل مارتيل (الملقب بالمطرقة) في رد الغزو العربي الإسلامي لأوروبا الغربية القادم من إسبانيا في القرن الثامن الميلادي في معركة «بواتييه» في جنوب فرنسا (حيث استخدم في المعركة التكتيكات القديمة لألوية جيش الجمهورية الرومانية)، لكانت المدارس الإسلامية تعلِّم اجتهاداتها القرآنية اليوم في أروقة جامعة أكسفورد!
إن قصة هذه «التغريبات» المتلاحقة ليست بالقصة البسيطة أو العابرة. ففي أدبيات الإسلاميين المتطرفين حول المسألة ما يؤكد التحليل الذي ذهب اليه إدوارد غيبون قبل ثلاثة قرون. فهم يقولون: «أن يموت الآلاف من المهاجرين غرقاً واختناقاً، فلكي تنجو مئات الآلاف من النازحين لتروي قصصاً أخرى أروع وأجمل هناك على اليابسة في أرض الكفر. كفُّوا عن التسخط على أقدار الله... فالعبرة بالنهايات».
الديبلوماسي، العدد رقم ١٤٤ - تشرين الاول/اكتوبر ٢٠١٥.