Middle East Watch
La revue de presse alternative pour un Moyen Orient libre
© تموز (يوليو) 2022
صعود الأصولية وسقوط الميثاقية والعيش المشترك في طرابلس
الاثنين 7 رمضان 1437, بقلم
كل اصدارات هذا المقال:
نجيب ميقاتي | سعد الحريري | نهاد المشنوق | أشرف ريفي |
لو كان الأمر بيد الطبقة السياسية اللبنانية، لفضَّلت التمديد للبلديات السابقة أسوة بتمديداتها المتمادية للمجلس النيابي. وهي تفضِّل التمديد لكل شيء مدى الحياة بما في ذلك الفراغ الرئاسي. وليس سرَّاً مخفيِّاً أن إجراء الانتخابات البلدية في موعدها القانوني تمَّ بناء على أوامر خارجية، ظاهرها الحرص على المواعيد الدستورية بعملية تُفقد أي تمديد معناه وجدواه، وهو ما ظهر بعد المرحلة الأولى من الاقتراع من خلال الدعوات الواسعة الى إجراء الانتخابات النيابية في أقرب وقت. لكن الجهات الخارجية التي أمرت بإجراء الانتخابات البلدية توخَّت شيئاً آخر، لا يستطيعون تسميته علناً، وهو ضرب الصف المسيحي، وإبقاء المسيحيين حالة هيولية ليس لها عامود فقري وليس له أي دور في صنع القرارات والسياسات الحسَّاسة.
هذا التوجه الخفي برعاية أميركية ـ فرنسية ـ سعودية، لم يستطع أن يحقق في المراحل الثلاث الأولى من الانتخابات سوى نصف نجاح، لكنه حقَّق نجاحاً كاسحاً في انتخابات طرابلس والشمال. نتائج بلدية طرابلس هي الأصدق إنباءً من التصريحات الفارغة التي أطلقها بعضهم، حول المناصفة والتمسك بالمناصفة وخزعبلة العيش المشترك. بل ظهر في انتخابات طرابلس نوعٌ من تقسيم الأدوار بين الاعتدالية الحريرية التي يمثلها وريثها الشرعي سعد الحريري ومعه حيتان المال، وبين الأصولية الحريرية التي مثَّلها وزير العدل المستقيل أشرف ريفي، المدير العام السابق لقوى الأمن الداخلي علناً، وزعيم قادة المحاور الإسلامية الطائفية في حالات التوتر.
فالذي حدث في طرابلس ليس انقساماً في الصف الحريري. إنه عملية مقصودة لاستبعاد المسيحيين والعلويين. وأشرف ريفي أنجز لمشغِّليه أكثر من هدف في وقت واحد، لأنه يستطيع أن يعود الى حضن سعد الحريري بعد القضاء على منافسيه من زعماء المدينة وأولهم نجيب ميقاتي الذي غدر به ليحل محله في السراي. الميقاتي طعن سعد الحريري في صدره، ليطعنه الحريري في ظهره بيد غيره، وهو متحالف معه. هذا في ظاهر الأمر، لكن تحييك القوى الخارجية من وراء الستار له أهداف أخرى تتعدَّى الشؤون البلدية والقروية كثيراً.
ما يشي بذلك قول أشرف ريفي بعد إعلان النتائج التي استبعدت المسيحيين والعلويين، إنه عرض على اللائحة المنافسة إدراج الأسماء ذاتها لمرشحين مسيحيين وعلويين على اللائحتين، أي إنجاح مسيحيين وعلويين معينيين، ومطابقين للمواصفات المطلوبة، بالتزكية. يعني جعل المسيحيين والعلويين «شرَّابة خرج» لا حول لهم ولا قوة ولا كلمة، وهو ما يشبه الإبعاد لكنه يحفظ ماء الوجه. ومن حسن الحظ أن ذلك لم يحدث. كانوا يريدون التغطية على الهدف فكشفوه. وهكذا تحقق القول بالفعل وأثبتت طرابلس أنها «قلعة المسلمين» كما تُعلن اليافطة التي رفعها الأصوليون الإسلاميون في مرحلة التوتر الكبير زمن قادة المحاور وسط ساحة المدينة، ويوم كانت الثغور الشمالية الى سوريا مفتوحة على مصراعيها لبواخر السلاح الراسية في ميناء طرابلس.
ليس ما حدث في انتخابات طرابلس شيئاً بسيطاً أو عابراً. هو شيء يتعلق بوجود لبنان ذاته. أو كما قال النائب الأرثوذكسي عن طرابلس روبير فاضل في كتاب استقالته من مقعده النيابي نتيجة لما حصل في انتخابات بلدية طرابلس «انتفاء شرط وجود لبنان». والشرط الذي حدَّده النائب المستقيل هو التعددية، والعيش المشترك وتوازن مكوِّنات الوطن «التي إن تم المساس بأي منها ضاع الهدف وانتفى مبرر الوجود».
في قراءة عاجلة قد يعني ذلك أن طرابلس سحبت قرار انتمائها الى لبنان. ذلك أن الطرابلسيين بقيادة الزعيم الوطني عبد الحميد كرامي، عندما تم تخييرهم بين البقاء في سوريا أو الانضمام الى لبنان اختاروا الاستقلال اللبناني في إطار الميثاق الوطني والعيش المشترك. لكن ما جرى في الانتخابات البلدية، وقبل ذلك خلال التوترات المسلحة وإشكاليات الغطاء السياسي للجيش، يُدخل المسألة في وضع فريد ومشبوه، لأن الخيار هذه المرة ليس بين الدخول في لبنان أو البقاء في سوريا، كما كان قبل الإستقلال. إنه وضع مقلق بما يعني الخروج من لبنان ومن سوريا. هو نذير انفصال أو تقسيم. لإن إخراج المسيحيين يلغي الخيار اللبناني، وإخراج العلويين يلغي الخيار السوري. هي، إذن، بالفعل «قلعة المسلمين» بمعنى أنها أول كانتون سنِّي في لبنان يستثني كل ما عداه.
حتماً الطرابلسيون لم يكونوا يتوقعون مثل هذه النتيجة، لكن المخططين في الخارج ووكلائهم على الأرض أوصلوهم اليها، على غرار ما يجري في أنحاء عديدة من الدول العربية. لا تحتاج طرابلس الى «داعش» لتحقيق نتيجة كهذه، لأن في المدينة كثيرين يقومون، بل قاموا، بمقامها. الاجتياح الداعشي للموصل في العراق، وللرقة في سوريا، لا يختلف كثيراً عن اجتياح طرابلس في صناديق الاقتراع. تطابقت الأسماء والنوايا بين طرابلس الغرب وطرابلس الشرق التي كان اسمها يوماً «طرابلس الشام».
بل يمكن للناظر المتشكك الى نتيجة طرابلس أن يخطر له أن السبب الأساس الذي دفع القوى الخارجية لفرض الانتخابات البلدية على الحكومة اللبنانية هو الوصول الى هذه النتيجة. وهذا الخاطر يصحُّ أيضاً حتى لو لم يكن ذلك مقصوداً، لأن الوضع الطرابلسي خلال السنوات الأخيرة لم يكن طبيعياً، ولم يكن من طبيعة اللبنانيين أصلاً قبل فرض الحالة الراهنة عليهم من قبل القوى الخارجية في واشنطن وباريس والرياض.
وقد أفرزت الانتخابات البلدية اللبنانية مفارقات عديدة ملفتة. ومن أبرز تلك المفارقات أن ما جرى في طرابلس مناقض تماماً لما جرى في بيروت. في العاصمة كان بإمكان القوى المسيحية وعلى رأسها التيار العوني إسقاط لائحة سعد الحريري. ووجَّه كثيرون اللوم للعماد ميشال عون لأنه لم يفعل وقد وواتته الفرصة. الحجة العونية، على الرغم من دقة وحساسية الموقف، كانت حاسمة لتفضيلها الميثاقية على أي اعتبار آخر، وهو أمر لم يراعه المسلمون في طرابلس، بفئاتهم المعتدلة وفئاتهم المتطرفة. والاستنتاج الأولي من هذه المقارنة بين بيروت وطرابلس تفيد بأن المسيحيين أكثر تمسكاً بالميثاقية والعيش المشترك من المسلمين.
ومن المفارقات التي أفرزتها انتخابات طرابلس استقالة النائب الأرثوذكسي الطرابلسي روبير فاضل، وامتناع النائب الماروني الكتائبي غير الطرابلسي سامر سعادة عن الاستقالة. قال النائب الكتائبي إنه كان ينوي الاستقالة لكنه شاور مطران طرابلس الماروني جورج أبو جودة، فنصحه المطران بعدم الاستقالة. والمعروف أن المطران أبو جودة على علاقة طيبة مع «تيار المستقبل». ومما قاله النائب سعادة في هذا الصدد: «من واجبنا تثبيت المسيحيين في المدينة وعدم تشتيتهم عبر القول لهم إن المدينة ترفضهم بالكامل». وناشد سعادة النائب روبير فاضل كي يعود عن استقالته «لأن من واجبنا تثبيت المسيحيين في المدينة حتى ولو أتت نتائج الإنتخابات البلدية عكس ما نتوقعه وما نتمناه».
في الأصل لم يكن لمدينة طرابلس مقعد نيابي ماروني. هذا المقعد استحدثه السوريون في عهد الوصاية بعد اتفاق الطائف إكراماً لصديقهم آنذاك جان عبيد الذي كان أول من شغل هذا المقعد. وبعد خروج السوريين من لبنان أوصل «تيار المستقبل» اليه النائب السابق سمير فرنجية، وبعد اتفاق الدوحة والعودة الى قانون الستين أقعد عليه تيار المستقبل» النائب سامر سعادة إرضاءً لحزب الكتائب من جهة، وحلاً لمشكلة ترشُّح سعادة في البترون مما يعرِّض نيابة بطرس حرب للخطر هناك، فجرت ترضيته بمقعد طرابلس. لا هو من طرابلس، ولا مقعد طرابلس له، ولا وجود يُذكر لحزب الكتائب في طرابلس.
والمفارقة الأخرى تتعلق بوزير الداخلية نهاد المشنوق نائب الدائرة الثانية في بيروت عن المقعد السنِّي. كان من المفروض، حسب المألوف اللبناني، أن تكون الانتخابات البلدية عرساً لوزير الداخلية يقطف فيه ثمار نجاحه في تحقيق ذلك الاستحقاق الذي كان كثيرون يتخوفون منه، بل كان بعضهم يتمنى أن يتعكر الجو بحوادث أمنية تبرِّر تأجيل الانتخابات. لكن ذلك لم يحصل لأن الفوز الكاسح في انتخابات طرابلس لوزير العدل المستقيل أشرف ريفي خطف الأضواء كلها. مستقيل من الحكومة ولا أحد يقبل استقالته، وأثبت أن شعبيته استطاعت أن تكسر جميع زعماء السنَّة مجتمعين في كومة واحدة. هذا لا ينطبق على نهاد المشنوق بالرغم من نجاحه في إجراء انتخابات بلدية لا غبار عليها. فالمشنوق لم يكن على زعامة سياسية قبل توزيره في أهم الوزارات، وهي وزارة الداخلية والبلديات التي تحكم لبنان كله. بل هو لم يكن على زعامة شعبية قبل «تنييبه» عن بيروت في اتفاق على هامش مؤتمر الدوحة عام ٢٠٠٧ بين «تيارالمستقبل» و «حزب الله» و«حركة أمل»، حمله بالتزكية الى مقعد ليس له. ولم يكن على زعامة عائلية ،ففي عهد الوصاية السورية نفاه غازي كنعان الى باريس يوم كان مستشاراً لرئيس الحكومة رفيق الحريري في ذروة عزِّه.
خطفت نتيجة انتخابات طرابلس الأضواء، لكن تلك النتيجة كشفت ما كان مقصوداً في بقية المناطق.
ما كان مقصوداً هو كسر ميشال عون في الدرجة الأولى، خصوصاً بعد تفاهمه مع القوات اللبنانية، وفي الدرجة الثانية دحض المقولة السائدة في الوسط المسيحي بأن التحالف العوني ـ القواتي يمثِّل غالبية المسيحيين. لم تستطع انتخابات زحلة كسر ميشال عون والتحالف العوني ـ القواتي، وكذلك معركة جونية في قلب كسروان حيث دائرة ميشال عون الانتخابية. أما في جزين فقد استطاع ميشال عون أن يحصل على مكافأة إضافية في الانتخابات النيابية الفرعية بفوز مرشحه أمل أبو زيد. والنائب المنتخب أمل أبو زيد، هو الآن النائب المنتخب الشرعي الوحيد في المجلس الممدد لذاته خلافاً للدستور. وهو من سلالة صحافية تضم والده حكمت أبو زيد المستشار الصحفي السابق للرئيس سليم الحص، وجده سليمان أبو زيد صاحب جريدة «الدنيا» في زمانه. وإذا كان النائب أمل أبو زيد يستطيع اليوم أن يدخل الى الكرملين في موسكو للقاء كبار المسؤولين الروس في أي وقت يشاء، فإن جدَّه كان من أشد المدافعين عن الاتحاد السوفياتي قبل عقود من انهياره.
في ربيع عام ١٩٧١ قام سليمان أبو زيد بجولة في الاتحاد السوفياتي ضمن وفد صحافي لبناني، بدعوة من نقابة الصحافيين السوفيات، ضمه كممثل لجريدة «الدنيا»، الى جانب محمود الحكيم ممثلاً جريدة «صوت العروبة» الناطقة بلسان حزب «النجَّادة»، وتوفيق المتني صاحب جريدة «التلغراف»، وسليمان الفرزلي رئيس تحرير جريدة «الكفاح» لصاحبها نقيب الصحافة اللبنانية الراحل رياض طه. وعندما جرى التعارف مع ممثل النقابة السوفياتية سأل المرافق سليمان أبو زيد ماذا يعني اسم «الدنيا»، فأجابه: «كأن تقول لو موند».
وطوال تلك الجولة الطويلة، وخصوصاً في أرمينيا على مقربة من جبل آرارات، كان سليمان أبو زيد شديد العبارة تجاه تركيا، ويمازح المرافق الروسي بقوله: «متى ستحلقون لتركيا. عندنا مثل يقول إذا حلق جارك فبلَّ ذقنك». ومن غرائب المصادفات أن الوفد اللبناني المذكور دعي في مدينة لينينغراد (سانت بيترسبورغ) لحضور باليه في دار الأوبرا الكبرى في المدينة عنوانها «شيرين وفرحات» لكاتبها الشاعر التركي الشيوعي المعروف ناظم حكمت. فظلَّ سليمان أبو زيد نائماً طوال العرض. وها هو حفيده يدخل الى الكرملين من الباب العريض وتركيا بين فكي الكماشة الروسية. لم يعد ميشال عون بحاجة الى الأرثوذكسي يعقوب الصراف في بلاد المسكوب.
العقدة العونية ما زالت غير مفهومة من كثيرين من اللبنانيين. ليست العقدة ما يردده البعض بالقول: «عون أو لا أحد»، للإيحاء بأن ميشال عون وحلفاؤه هم الذين يعطلون الانتخابات الرئاسية. العقدة هي أن أياً من الرافضين وصوله الى الرئاسة لم يقدِّم سبباً مقنعاً يبرر رفض ترشيحه. قولوا للبنانيين لماذا ترفضون ميشال عون رئيساً، وليس لأي منهم جواب، سوى التشكيك بمدى تمثيله للمكوِّن المسيحي في النظام.
هذا المأزق مردُّه الى انعدام صحة التمثيل. فريق يستأثر بالسلطة من خلال استتباع الآخرين لأنه وصل الى ما وصل اليه بالاستيلاء على تمثيل غيره. مأزق انعدام صحة التمثيل للمكونات الميثاقية في لبنان، هو الذي جعل ميشال عون يعود الآن الى المطالبة بمشروع القانون الأرثوذكسي حيث كل طائفة تنتخب نوابها على أساس النسبية وعلى أساس لبنان كله دائرة واحدة.
يبدو حتى الآن وكأن ذلك من الممنوعات الدولية، أو على الأقل من الترويكا الأميركية ـ الفرنسية ـ السعودية. ذلك لأن صحة التمثيل، مقرونة بالالتزام الدقيق بالميثاقية الوطنية، من شأنها أن تعيق أو تمنع التدخلات الخارجية في الشؤون اللبنانية، مما يجعل لبنان دولة دستورية مستقلة بما تحمله الكلمة من معنى.
لكن أين هذا من المخططات المرسومة للمنطقة بكاملها. والشبهة حتى الآن تنبىء بأنه من الممنوع أن يعود المسيحيون الى دورهم في قيادة لبنان، ومن الصعب جعلهم أدوات طيِّعة في يد القوى الخارجية كما هو الحال منذ الطائف حين أصبحت رئاسة الجمهورية مجرد وظيفة بروتوكولية.
الديبلوماسي، العدد رقم ١٤٦ - أيار/مايو ٢٠١٦.