Middle East Watch
La revue de presse alternative pour un Moyen Orient libre
© George – décembre 2024
As Safir
الثلاثاء 4 ربيع الثاني 1432, بقلم
كل اصدارات هذا المقال:
كثير من المشاركين في تظاهرات الأسبوعين الأخيرين لا يتذكرون أن النظام الطائفي الذين يدعون إلى إسقاطه «يحتفل» بالذكرى المائة والخمسين لتأسيسه هذا العام. لنتذكر معهم: استولده قناصل الدول الست عام ١٨٦١. وهو يحكمنا منذ ذلك الحين. أي أن النظام الطائفي في لبنان أقدم نظام حكم عربي بامتياز. هو أقدم من الأسرة الهاشمية الأردنية والأسرة السعودية والاحتلال الإسرائيلي لفلسطين وأطول عمراً من ولايات القذافي وقابوس وحسني مبارك وعلي عبد الله صالح مجتمعين.
ما يعلمه الشباب الذين خرجوا في تظاهرات الأسبوعين الماضيين أن ما أنزلهم إلى الشارع هو ضيق صدرهم عموماً بنظام اجتماعي اقتصادي سياسي متكامل يسد كل الآفاق في وجوههم. عبروا عن ذلك بتعدد المطالب. ولكن رسالتهم الأبلغ أنهم لم يعودوا يتعرّفون على أنفسهم ولا على تطلعاتهم في نظام الحزبين المفروض عليهم منذ عقد من الزمن باسم ٨ و١٤ وأنهم يرفضون تلخيص قضايا البلد والشعب بقضية سلاح المقاومة وقضية المحكمة (ناهيك عن «اللألأة» ضد «القهر»!).
هنا خميرة أمل، بل آمال، يمكن البناء عليها والسعي لحمايتها من الاستيعاب.
لن يسقط النظام الطائفي في لبنان بالضربة الواحدة القاضية. ولا هو سقط أصلاً على هذا النحو في تونس أو مصر. حيث كان سقوط رأس النظام فاتحة معارك للاضطلاع بمهام تاريخية لتفكيك بنية النظام القمعية ـ الأمنية وتحويله إلى نظام برلماني مدني بديلاً من نظام فردي رئاسي.
للنظام اللبناني، في المقابل، سبعة رؤوس ـ رئيس الجمهورية وستة من زعماء الطوائف الأربع الرئيسية. وهم يلتقون، على رغم تضارب مصالحهم وخلافاتهم ومنازعاتهم، على التمسك به بشتى الوسائل. الوافدون الجدد من الكتلة السياسية الشيعية حريصون على «التوافقية الثقيلة» وما قدمت من مواقع قوة. فيما أركان النظام التاريخيين الذين توسلوا الأكثرية العددية المارونية لتحقيق الأسبقية في الحكم، متخوفون على تبدل الأسبقيات. فلا كبير عجب في انقلاب «التيار الوطني الحر» على «علمانيته» الباريسية ومشاركته سائر الزعامات المارونية اللعب في ملعب مشترك: التمسك بالمناصفة، العمل على تحسين مواقع الطائفة في الوزارة واستعادة ما أمكن من الصلاحيات السابقة لرئيس جمهورية «قوي».
ولعل النظام لن يسقط من فوق بل يجب نخره من تحت.
النظام الطائفي جزء من النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي يسيّر المجتمع اللبناني. وليس يلخصه. يتدخل في كافة حياة اللبنانيين وليس فقط في حياتهم الدينية والسياسية: في توزيع العمالة والوظيفة والترقي الاجتماعي كما في توزيع خدمات الدولة والموارد والثروة بين المناطق والفئات الاجتماعية. إنه بهذا المعنى نظام من التنفيع يوزع امتيازات وينمي فوارق صغيرة ويغطي في الوقت ذاته الفوارق والامتيازات الطبقية الكبيرة.
وانغراس النظام الطائفي في كل مسام المجتمع اللبناني والدولة يمنحه قوته التي تنمو بقدر ما تضعف دولته وقد فرض عليها التخلي عن معظم الأدوار المتعلقة بـ«الحقل العام» لصالح الحقلين الأهلي والخاص. بهذا المعنى ليس النظام الطائفي آفة خلقية ولا هو تخلف حضاري ولا إيديولوجية مفوتة من زمن الإقطاع. إنه يحمل نظاماً من الخدمات والمنافع المادية تشكل وسائل استتباع رئيسية لجماهير واسعة من اللبنانيين للمذهب والزعيم والحزب.
رفعت التظاهرات الأخيرة شعارين متجاورين: إسقاط النظام الطائفي وتحقيق العدالة الاجتماعية. ولعلها كانت تؤكد على ذلك. لكن الأحرى أن الشعارين مترابطان. فكل مكسب ضد الهدر والفساد ومن أجل الإصلاح الإداري واستقلال القضاء يصيب نظام المحسوبية الطائفية. وكل تنام لدور الدولة في الإنماء المتوازن وتعزيز تكافؤ الفرص في العلم والعمل، والحقوق الاجتماعية في ضمان السكن والبطالة والشيخوخة والصحة بما هي جميعاً من قبيل حقوق مواطنة متساوية، لا امتيازات جماعات مذهبية أو مناطق متفاوتة ومتمايزة، يسحب البساط من تحت الحوامل الاجتماعية للنظام الطائفي.
من هنا يندرج تغيير النظام الطائفي في مشروع تغيير اقتصادي واجتماعي وسياسي شامل.
ولا بد من القول إن الحلقة الأضعف للنظام في حقبة ما بعد الطائف هي شرعيته. إننا نعيش في ظل نظام غير شرعي وطبقة حاكمة فاقدة للشرعية لأنها ترفض تطبيق الدستور الذي سنّته وجاء بها إلى السلطة.
يقوم النظام السياسي برمته على تطبيق مختل للدستور يغلّب فيه حقوق الجماعات على حقوق الأفراد. في حين أن الدستور يوازن بطريقة خلاقة بينهما. من هنا إن إلغاء الطائفية السياسية والإدارية إنجاز ديموقراطي أساسي، يصحح الخلل في تطبيق الدستور لصالح مأسسة وقوننة المساواة القانونية والسياسية بين المواطنين (بما فيها المساواة في حقوق المواطنة بين النساء والرجال).
ونظام المجلسين يحقق التوازن المطلوب بين حقوق الجماعات وحقوق الأفراد من حيث التمثيل السياسي. وهو إلى ذلك المرجع الدستوري الذي يشكل ضمانة للجماعات المسيحية من حيث حقوقها كجماعات في لبنان وفي المحيط العربي.
أما انتخاب مجلس النواب خارج القيد الطائفي على أساس نظام الدائرة الواحدة والنسبية وفق اللائحة المقفلة فهو يرسخ فكرة التمثيل الوطني. ويحقق تمثيل أدنى تلاوين الأطياف السياسية في المجلس التشريعي. ويجبر القوى السياسية المتنافسة على عقد تحالفاتها بناء على تقارب المصالح والبرامج والسياسات. وينتج حكومات ائتلافية تمنع الغلبة لأي فريق على الآخر.
وأخيراً، ليس آخراً فإن سن قانون مدني اختياري للأحوال الشخصية إجراء ديموقراطي من قبل أن يكون إجراءً علمانياً لأنه يمس موضوع الحرية في الصميم. يدعو النص الدستوري (المادة ٩) الدولة للدفاع عن حق اللبنانيين في إتباع الأحوال الشخصية باسم «حرية المعتقد المطلقة». ولا معنى لهذه الحرية المطلقة إن كانت تعني الإلزام بالأحوال الشخصية للمذهب، بل الحرية ولو النسبية هي في السماح للبناني واللبنانية بالاختيار بين الخضوع لقانون مدني مشترك وبين الخضوع لقانون مذهبه.
يستنتج من كل هذا أن معركة إسقاط النظام الطائفي هي معركة تغيير. وهي تملي، في توازن القوى الحالي، الخروج من حرب المواقع إلى حرب الحركة. تبني ببطء وتؤدة قوى التغيير من خلال خوض مختلف المعارك الوطنية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
على أن الشمول والتراكم لا ينفيان البحث عن الحلقة الأضعف في هذا النظام. تبدو الآن أنها حلقة الشرعية. هذه طبقة حاكمة خارجة عن الدستور الذي جاء بها إلى الحكم. والحلقة المركزية تؤشر أقلاً إلى نقطة البداية إن لم يكن على مهمة ذات أولوية: افتتاح معركة فرض تطبيق الدستور بالضغط من أجل تشكيل الهيئة الوطنية العليا لإلغاء الطائفية السياسية.
«الشعب يريد تطبيق الدستور».