الجمعة 7 صفر 1434, بقلم
كل اصدارات هذا المقال:
كي نوفر التبرير والمحاججة والتخوين والنكران، فإن كل كلمة مكتوبة هنا مصحوبة بصورة وإثبات ووثيقة..
طرابلس.. ساحة للجيش الحر اجتماعياً وعسكرياً وسياسياً. جاء أبو حيدر إليها ليبحث عن إعانات وتبرعات لتسليح الكتيبة التي ينتمي إليها، ليس هو فحسب، بل عمار الحموي أيضاً، بالإضافة إلى النقيب طلال الذي انشق عن القوات الخاصة، وجاء من عسال الورد قاصداً طرابلس. وتستمر القائمة: محمد الهارب من الحرس الجمهوري، وأبو أحمد من إدارة الأمن الجنائي... وغيرهم، كلهم هنا، وسأدلكم عليهم إذا رغبتم. لن تستطيعوا أن تحاربوهم هنا، إذ ليس خلفهم دولة واحدة فحسب، بل دول كثيرة.
هنا طرابلس... وهنا فيها الجيش الحر والإسلاميون وأعضاء القاعدة القدامى منهم والجدد، كلهم أحياء يرزقون ويرهبون، ولكنهم أيضاً يموتون، يموتون فقط حين يكون من المناسب أن يموتوا.. أو بوضوح أكثر حين يكون مناسباً للأجهزة الممسكة بالأمور هنا أن يموتوا!
اللعبة في طرابلس قذرة ومقززة، وأنتم تشاهدون ملوكها ولاعبيها على شاشاتكم. وبالمناسبة، ولكي لا يخدعكم أحد، لا موطئ قدم هنا لا لأمل ولا لحزب الله. وشكل المعركة مختلف جداً، هو ليس محلياً أبداً، إنه إقليمي بحجم موت وسام الحسن.
تنقسم طرابلس إلى محاور كبرى تنقسم بدورها إلى شوارع وأزقة. وفيها تبدأ المسرحية كما في كل مرة عبر إطلاق الشرارة في خط التماس الطائفي. لتشتعل بعدها النيران، ولا بأس فمستشفيات الساسة حاضرة تستقبل جرحى الحرب وتتحمل مسؤولية شفائهم على عاتقها.
هنا، بعض الساسة يؤمنون السلاح، وبعض الأجهزة تتولى الحماية، ومن لا يشارك مباشرة في الدم سيشارك بالنيابة عبر إعانة أهل الدم.
كاذب كل من ينكر وجود أكثر من ٥٠٠٠ عنصر ومقاتل سوري ولبناني جهادي في طرابلس اليوم (وربما أكثر من ذلك بكثير) موزعين على مراتع الفقر والجهاد. من نهر البارد والمنية إلى البحصاص مروراً بأبي سمراء والقبة...تعريجاً على حيّ التنك في المينا.. حتى لقد باتت رائحة الهواء هنا عبقة برائحة ألوان العلم الأخضر ذي النجمات الحمر، وليس الهواء فحسب، بل حتى الأغاني، والصور، وأوراق النعوة الموزعة في أحياء الموت، أصبحت كلها بلون العلم الأخضر.
كاد سعد المصري، وهو قائد محور سوق الخضار في التبانة، أن يسمي زمرته باسم أخيه "الشهيد" ويطلق عليها (كتيبة خضر المصري - جناح الثورة السورية).. لكن النصيحة ربما جاءت إليه سريعة، فعدل عن الفكرة وألغى مشروع التسمية بعد ما كاد أن يفعلها لا لسبب إلا لأنه يشعر أنه يقاتل لأجل "الثورة السورية" وفيها، وفي ذلك الحي الذي يصرخ فيه الاطفال وتعلو صيحاتهم من كل صوب: "ضدك يا بشار"...
طرابلس حمص البحر.. أو هي بحر حمص. أو هما معاً جزيرة واحدة تحيط بها قوّة مضاعفة من زغرتا ثم طرطوس واللاذقية، إلى الظهر المختبئ في الهرمل.. ومع ذلك، ومهما اتسع القضم.. لا تزال طرابلس مع حمص كالجزيرة المزنرة.
هنا يظهر دور سمير جعجع من بشري والكورة و"فضله" على "ثورته السورية" وسلاحها. إياكم أن تستخفوا بسلاح دير الاحمر وبشري.. ولا يستخفن أحد بالثائر السوري (ومؤخراً الفلسطيني) سمير جعجع. وإذا ما فُتح باب المعركة واشتعلت نيرانها فلن تنطفئ... ولكن الباب لن يفتح، لأنهما الاثنين يتقاسمان القمم، فرنجية في إهدن وقبالته جعجع في بشري... وبينهما وادي قنوبين للبطريركية المارونية.. وربما الطائفة تجمعهما الآن في نهاية حرب الطوائف هذه، أو ربما لطائفتهما دور فيها بعد توزيع الأدوار! لكن المهم.. لا ولن تحسم المعركة في الشمال دون تسوية واسعة. أما طرابلس، فهي الآن تبصق في وجه الجنرال غورو ودولة "لبنانه الكبير" كل يوم، لتقول في كل شيء فيها وزاوية: أرأيتم كم أنا سورية؟
ويدور ويدور القتال.
حين لا يقاتل عمار في حمص، فسيكون عائداً إلى طرابلس ليقاتل فيها. بعد أن اخترع لنفسه كتيبة يجب أن يدور اسمها في فلك الإسلام، فأطلق عليها اسم "درع الإسلام". وعمار هذا شاب طموح ربما كان يريد أن يصبح رجل أعمال، لكنه الآن يعمل في "المعركة"، فينسق العمل ويؤمن السلاح، ثم يعود من طرابلس إلى عرسال ثم إلى القصير فحمص.. لتُلتقط له الصور في ساحة القتال، ثم يترك الشباب والعتاد، ويقفل عائداً إلى طرابلس، وهكذا يستمر عمله ذاهبا وعائداً، وهو يعبر كل الحواجز بارتياح نفسي دون أن يخشى شيئاً، فاسمه نظيف ولا شيء حوله، حتى عندما يمرّ على حاجز الجيش اللبناني الواقع في الضنية يعلن عن نفسه أنه من الجيش الحر، فتُرفع له التحية ويعبر. عمار الحموي يستثمر في دم حمص ويقاتل فيها.. ويستثمر في دم طرابلس ويقاتل فيها.. ويعلن دائماً أن طرابلس هي النقطة التالية بعد سوريا.. ويمر الشهر بعد الشهر... وما تزال المعركة المتنقلة قائمة..
ربما كان غطاء كبيراً هذا الذي يحدث، فلا يستخفن به أحد. أو ربما غباء كبير. لكننا هنا نسرح ونمرح.. ولا نسجن أو نموت إلا في لبنان، ولكن متى؟ حين يريد أحد الأقوياء أن يعاقبنا ولا يكون ظهرنا قوياً، أما غير ذلك، فاقتل وتاجر وانهب واسرق وجنّد وفجر... فلن يزعجك أحد ولن يسائلك شيء أو تلاحقك جهة كان اسمها يوماً ما: "دولة".
وبالمناسبة، عمار ومحمد ولؤي وياسر وفاروق والرفاعي والنبكي وغيرهم... كلهم مرؤوسون كان قائدهم الاستراتيجي وسام الحسن، وكلهم علّقوا صورته يوم موته مذيلة بلقب "شهيد الثورة السورية". لقد استطاع وسام الحسن أن يصنع على المسافة الممتدة من نقطة البحر الطرابلسي إلى حمص ودمشق وحشاً كبيراً، ولكن من ابتلع الحسن وسلّمه للموت هو هذا الوحش نفسه، لأنه حين تصبح الأداة أقوى من صانعها، فهكذا ستكون النهاية حتماً.
كان قائد محور الجيش الحر في "المنكوبين" في طرابلس (عامر أريش) يعلق صورة مزدوجة لوسام الحسن وأشرف ريفي.. تماماً كما يعلق سعد المصري صورة نجيب ميقاتي.. ويعلق أبو أحمد صورة أبو العبد كبارة.
ولكن الجميع يكذب في طرابلس، أهل الدين والدنيا والمال والرتب، جميعهم عملتهم الكذب، فلولا كذبهم، لما كانت حربهم كاذبة. وإلا فهل يعقل أن خط تماس عمره ٣٠ عاماً أعيد فتحه عام ٢٠٠٨ لإحياء شخصيته السنية العلوية ضمن النزاع "السني الشيعي"، ومنذ ذلك الحين صار الباب الذي تُفتح منه المعركة كلما أرادت السياسة أن تفتحها؟ هل يعقل أن نجيب ميقاتي لا يخجل من أهل طرابلس؟ هل يعقل أن أشرف ريفي لا يخجل من صوره المعلقة حول المدينة المفجوعة؟ هل يقبل المشايخ أن يتحول إسلام مدينتهم إلى أداة بيد الغرب يستعملها للحكم والقتل؟ رأيتهم جميعهم، من الشيخ إلى المفتي الشعار، ومن محاور السلاح الذي يرفع علم سوريا الأخضر إلى جبل رفعت عيد الأسد... ومن دور النواب إلى هواتف الوزراء. والكل متآمر على الدم، كلهم هكذا زمرة واحدة: نواب، وشيوخ، وقيادات جيش وأمن واستخبارات، أو رؤوس أحزاب ورؤسائها.
أمّنت زمرة الدم هذه كل ما استطاعت تأمينه، وكانت ساحة العمل مرفأ طرابلس، ولست أتجنى على أحد، ففي يدي 3 وثائق عن شحنات وصلت في السفن الوافدة إلى المرفأ تحمل سلاحاً ثقيلاً، أتت إحدى هذه الشحنات من أوروبا بآلاف القطع من الذخيرة المدفعية، وكان الأكثر إضحاكاً أن المستلم الشرعي للذخيرة، وبحسب الوثائق: قوى الأمن الداخلي لقائدها اللواء أشرف ريفي.
ليس في ذاكرتي المتواضعة أي صورة لمعالي قوى الأمن الداخلي مع قذائف صاروخية مدفعية. وفي الحقيقة فليس في ذاكرتي صورة للأمن الداخلي سوى تلك البزات الرمادية المرقطة كاللاحسم وبعض مرتدي هذه البزات غافٍ وبعضهم الآخر يأكل وجبة سريعة أو يلعب في هاتفه.. هكذا هي الصورة المحفوظة عن "الدرك" في ذاكرتي!
ألا يعرف الدرك البيوت والكاراجات التي تصنّع العبوات الناسفة في طرابلس في هذه الأثناء ؟ ألا يعرفون الجوامع الموبوءة المخترقة؟ أم انهم يتركونها لتوظيفها وقت الحاجة أو الرغبة؟ كل شيء في طرابلس أصناف مختلفة، والإسلام فيها سلفي تكفيري وهابي معتدل كافر زنديق صفوي حنفي صوفي.. والقاعدة موجودة دون أن يدري أحد، موجودة في عقائد كل من يقاتل اليوم... وإلا فلا سبب يقاتل المقاتل هنا لأجله. لا حقد هنا إلا حقد الفقر.. والفقر لا يقاتل الفقر إلا عن عقيدة. وعقيدة طرابلس الأصيلة اختطفت، لكنها ستبقى طرابلس الشام، ولو ظن بعضهم أنها ستكون يوماً ما إمارة يحد حدودها نفق شكا البترون.
ليس في الدولة الآن جيش أو أمن يخيف الناس ويردعهم، وحين حاول عباس إبراهيم أن يكون دولة زُلزلت الأرض كرمى لعيون شادي المولوي، ومن هو شادي المولوي؟ مجرد شاب يعمل لديهم، نموذج عن آلاف تملئ طرابلس، فقير ومعقد بالإسلام المحرّف.
وحده فرع المعلومات ما يخيف. ولكن ما الذي يفعله فرع المعلومات بآلاف المدافع؟
لا شك أن الرحمة تجوز على كل من يموت لأجل قضاياه ومبادئه، ولا شك أن تلك أزكى التضحيات. ووسام الحسن مات قائداً معارضاً سورياً، وقائداً استخباراتياً وعسكرياً ودبلوماسياً. ولكنه أيضاً مات عاشقاً وزوجاً ومحبوباً لحفنة من الإعلاميات...
لم يكن موته صدفة، فطرابلس تمشي، على حساب الورقة والقلم، نحو طاولة التسويات الكبرى. وباحتنا العربية هذه ليست متروكة وحدها، لذلك فإن صراعها سيطول، ومقتها سيزيد، وأمقت ما فيها أن لاعبها هو ذاته من ينصب نفسه مقاليد الدولة، فهل يعقل أن يهاتف رئيس الحكومة قائد محور سوق الخضار؟ هل يعقل؟!
وليس هذا فحسب، فرئيس الحكومة يجتمع أيضاً في حضرة المسلحين المقاتلين؟!
ورئيس فرع المعلومات يستخدم المعلومات ويجيّرها ليقاتل بشار الأسد في مدينتنا ومنها؟!
ومدير عام قوى الأمن الداخلي يفاوض باسم المعارضة السورية؟!
في طرابلس، يتحول اللواء أشرف ريفي من قائد أمن في الدولة اللبنانية إلى رجل سياسي في الفريق السعودي. يحمل "ابن البلد" وبكل بساطة هاتفه ويرسل إشاراته ليفاوض قائد جبل محسن رفعت عيد، ويعرض عليه السلام مقابل موقف سياسي، يومها قال ريفي لرفعت عيد (وبالحرف): "إن أعلنت موقفاً سياسياً مناهضاً أو مستقلاً عن النظام السوري، تنتهي المشكلة ويعود الهدوء... واطلب ما شئت"!!
هذا قائد الأمن الداخلي المؤتمن على أمن الداخل، يفاوض بالحرب وهو قائد الجهاز الذي يفترض فيه أن يوقف من يحمل السلاح، لكنه في الحقيقة لا يوقف ولا يمنع المسلحين، بل يحابيهم ويرسلهم إلى موتهم السعيد كما يشتهون ويشتهي هو لهم.. فغداً، كلما جاع أهل طرابلس سوف يسهل تجيير أصواتهم نحو الجهة التي يريدها "ريفي"، غداً ولكن قبل أن يتقاعد "ريفي" ويصبح "لا شيء".
هل تعلو كل هذه الصور المدينة بلا سبب أو هدف؟ هل رأى أحد من قبل مدينة حرب ترفع صور قائد أمنها الداخلي؟ وهل قائد الأمن الداخلي هو نفسه قائد هؤلاء المتقاتلين بالسلاح؟
طبعاً... فهو القائد الذي من مدينتهم، تماماً كما كان وسام الحسن الأب الروحي لتسيير أمورهم.. وهم في النهاية قادة يُستخدمون ثم يرمون للموت سراً. أو ربما يُشن القتال عليهم علناً إذا جاءت بذلك الإشارة الإقليمية، من يدري؟!
هنا في طرابلس، مرت على الحسن أيام كان فيها أقوى من القوي، فعمل على قلب النظام على الأسد في دمشق، وحاول قطع الذراع الممتدة من دمشق إلى اللاذقية عبر حمص، يوم أصيبت حمص بالغرغرينا وحاولوا بترها.
ربما نجحوا في تحويلها إلى الأبد... وربما لن يكون لكلمة حمص في نفوسنا إلا وقع "الثورة على النظام"، وبالمناسبة.. حين قتل الحسن، نعاه فراس طلاس الحمصي العربي على الفيسبوك خالعاً عليه لقب "شهيد الثورة السورية"...
نعم.. إنه حتماً شهيدها.
أما الريفي الطرابلسي فسوف يحاول أن يصبح قائداً في مدينته، نائباً ربما أو وزيراً.. لم لا؟ وهل لمروان شربل من الخبرة ما ليس لريفي؟ ألم يبدأ شربل مسيرته قائداً للدرك في طرابلس؟ سبحانك طرابلس، تقذفينهم إلى الأعلى كلّما غرقتِ.. سبحانك طرابلس، منك وبفضلك أصبح الميقاتي رئيس حكومتنا، ومنك ولدت في حمص "ثورة"، ومنك تصرخ منارات البحر ومآذنه إلى كل الداخل... لتتسخ الأرض ونغسلها بالدم.. هكذا، دمهم يطهّرهم، ومن يموت سيغسّل من نتن مفاوضاتكم ونقلات سلاحكم وأجهزتكم ومصانع عبواتكم وعسسكم... ليصبح كل من يموت أنبل ممن سيبقى ليفاوض على الدم.