Middle East Watch
La revue de presse alternative pour un Moyen Orient libre
© George – décembre 2024
فلسطينياً، عربياً، عولمياً، وصهيونياَ
السبت 1 ربيع الثاني 1430, بقلم
كل اصدارات هذا المقال:
حتى لو بدأنا قراءة الصراع العربي-الصهيوني من مذبحة غزة، لكان ذلك كافٍ لرؤية الخطر المحدق والخطر القادم بتصميم من مختلف الأطراف الرسمية تجاه حق الشعب الفلسطيني والأمة العربية ومستقبلهما. وهو خطر ينقسم إلى مستويين وليس نقيضين:
– في المستوى الأول مشروع صهيوني رقم (أ) بطرد فلسطينيي ١٩٤٨ إلى الضفة الغربية والأردن، وهذا ما تقبله الأطراف العربية الرسمية، دون إعلان، على أمل أن يكتفي الكيان الصهيوني بهذا ويمنح سلطة الحكم الذاتي ما يقارب دولة!
– وفي المستوى الثاني، أن هذا الطرد هو مقدمة لطرد كل من ليس يهودياً من كل فلسطين، كمرحلة انتقالية أكبر نحو توسع صهيوني إلى كردستان العراق هذه المرة وليس فقط إلى الفرات، وليس اقل الشواهد إقامة قواعد صهيونية في كردستان العراق. وهذا ما تخشاه القطريات العربية، ولكنها لا تجهز له شيئاً، فهي ليست بمستوى هذا التحدي.
وهذا الحديث ليس نبوءة ولا مقدرة على الوصول إلى جوارير المخابرات الصهيونية، أو دوائر الإيديولوجيا، هذا يتم تعليم الطلبة به وصرحت به وزيرة الخارجية الحالية ناهيك عن لبرمان وعن من يبق هؤلاء. بكلمة، فالكيان لا يخفي ما يريد، إنما الأنظمة القُطرية هي التي تخبىء ((رؤوسنا)) في الوحل!
والأخطر من هذا أن ما تقوم به الانظمة القطرية هو ايضاً، إخفاء وتغطية الدور الأميركي والغربي عامة، وهو: إن هذه العنصرية والتطرف والعدوانية الصهيونية المنفلتة لا يمكن لها أن تكون لولا السلاح الأميركي والدعم الغربي الراسمالي. ففي كل العالم هناك ألوان من التطرف المتعدد، لكن تمكين هذا التطرف وتوفير فرص تحققه يعتمد على توفر القوة لذلك، وهذا ما تقدمه أميركا والغرب وتحديداً الاتحاد الأوروبي المتوسع إلى الكيان الصهيوني.
ملخص هذا، أن الأمة العربية تتعرض لحرب مستدامة من المركز الراسمالي الغربي-الصهيوني وأنظمة الدولة القطرية تساعد هذا العدوان بتفريم أمعاء الأمة من الداخل. وهذه الدرجة من التخريب المحلي، لم نجد بعد مصطلحا لها أو شبيهاً في التاريخ!
في كثير من الأحيان تتبدى أمام المرء أحداث ضخمة، لكنها مغالق بلا مفاتيح مما يجعل العبور إليها مشقَّةً لا يقوى عليها الكثيرون. وفي أحيان أخرى، تغدو أموراً صغيرة مثابة مفاتيح لعظام الأمور، ويبدو أن هذه سُنَّة الحياة. ومن الأحداث الجسام، ما اسمح لنفسي بتسميته "القرار الرسمي المعولم للاعتراف بالكيان الصهيوني" المشترك، واقصد بمشترك أنه فلسطيني وعربي وغربي وفي النهاية والمحصلة "إسرائيليا". وقد يبدو في هذا تجنِّ على الأطراف الأخرى لصالح الطرف الصهيوني، لكن هذا ما تشي به التطورات. والاعتراف هنا بمستويين:
– الأول: شطب حق العودة إلى المحتل عام ١٩٤٨
– والثاني: دمج الكيان دمجا مهيمناً في الوطن العربي مما يجعل توسعه الجغرافي المتزايد مجرد تجارة أراضي [1]. وليصبح القوة العسكرية الأولى التي لها ذراع اقتصادي هو الأقوى ايضا في الوطن العربي.
لنبدأ بكلمة في حوار القاهرة. فما نقلته وكالات الأنباء أن رئيس وفد السلطة الفلسطينية إلى هناك احمد قريع يقول بوضوح: "نريد اعترافاً بإسرائيل واضح مثل الكريستال [2]". إذا صح هذا عن وكالات الأنباء، فهذا يعني بلا مواربة أن حق العودة مشطوب، اللهم إلا من رحم ربي وقبلت "إسرائيل" بإعادة أنفارٍ من قبيل الصدقات على موائد اللئام! اي أن حق العودة موضوع على طاولة "الكرم الصهيوني". هذا من جهة ومن جهة ثانية، فإن الصهاينة أنفسهم لم يطلبوا اعترافاً "نقياً" إلى هذه الدرجة.
من جهة أخرى، فإن رئيس السلطة الفلسطينية قد كرر مطلبه طوال السنوات الأخيرة بالتزام حماس بقرارات الشرعية الدولية. ولا يخفى على أحد ان الشرعية الدولية هي كذبة ضخمة، هي الولايات المتحدة اساساً، قبل جراحها المثخنة مالياً اليوم، وهذا ما أوضحه تقرير دو سوتو مبعوث الأمم المتحدة للرباعية الدولية. فإذا كان لهذه الرباعية أو الأسرة من شرعية، فيجب أن يكون قد تم تخويلها بذلك من الشعب الفلسطيني والأمة العربية فهم أهل فلسطين. وهذا لم يحدث.
ويرتكز رئيس السلطة الفلسطينية –سلطة الحكم الذاتي- في قوله هذا على حقيقة أن فلساً واحداً لن يدخل إلى أراضي الحكم الذاتي إلا باعتراف اية حكومة قادمة بقرارات الرباعية والشرعية والتزامات ومعاهدات وتعهدات السلطة الفلسطينية. كما تعلن أميركا صراحة أنها لن تسمح بحكومة فلسطينية لا تعترف بالكيان! ويبدو أن هذا يتحول يوماً بعد يوم إلى حق "شرط صهيوني" لم يحلم به الكيان اصلاً.
وهذا ينقلنا إلى البعد الرسمي العربي وهو البعد الذي يتأسس يوماً بعد يوم على تراث كامب ديفيد، وإيديولوجيا أنور السادات، النموذج الكامبي، النموذج الذي يُخرج الأنظمة العربية من الصراع، ويحولها إلى وسطاء في الصراع. والوسيط يمكن أن يكون" متوازناً" محايداً ومن الطبيعي أن ينحاز، وهنا يُدان على عدم حياديته، لكنه معفى، طالما وصل هذا الوضع، معفىً من الإلتزام والإنتماء.
من يقرأ مسلكيات الأنظمة العربية القطرية تجاه مجزرة غزة، والذهاب تنازلياً حتى عام ١٩٨٢ حيث اقتلاع منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان، ولا نريد اعمق من هذا زمانياً، من قرأ هذه يجد أن الأنظمة العربية الرسمية، قد لعبت دوراً حتى غير حيادي، بل مكمِّلاً لدورها، مساهمتها، في بناء الكيان الصهيوني وتعزيزه. وهذا يكشف عن جذر الولادة المشتركة للنظام القطري العربي وللكيان الصهيوني في اتفاق/مؤامرة سايكس-بيكو. ويكفي أن نشير إلى أن قرابة نصف يهود الكيان هم من اليهود العرب، لم يتسللوا إلى الكيان بل أتوا من قطريات "مستقلة" والأغلبية بعد اغتصاب فلسطين ١٩٤٨، وحتى الذين اتوا قبل ١٩٤٨ كانوا قد أتوا من دول "مستقلة".
والأهم من هذا ما يجري اليوم. فالولايات المتحدة (ذات بوش وذات أوباما على حد سواء) تؤكد أن لا مال ولا طعام ولا دواء إلى غزة بدون اعتراف حماس بالكيان الصهيوني. وتقف إلى جانب الولايات المتحدة مختلف الدول الاستعمارية العتيقة (المانحة). وهذه الدول هي جماعات متسلطة على الثروة العربية، ومن بقايا هذه الثروة ترشي فلسطينيين لإقامة سلطة تعترف بالكيان. هي المعادلة هكذا.
إذن من هذه الأموال، أو حتى من الحصة التي تأخذها بلدان النفط العربية يمكن لأية دويلة منها أن توفر للفلسطينيين احتياجاتهم. فلماذا ترهن هذه الدول القطرية العربية مساعدة الفلسطينيين بعواطف الغرب الرأسمالي ذو العداء العلني للشعب والأمة؟
وابعد من هذا، إن من حق كافة اللاجئين الفلسطينيين على الدول الغربية الراسمالية تحديداً التي اقامت الكيان أن تتعهد وحدها بدفع كافة حاجات اللاجئين طالما لم يُعادوا أو يعودوا إلى وطنهم الذي زرعت هذه الدول الغربية فيه كياناً طاردا وعنصريا واستيطانياً. فليس ما تقدمه هذه الدول منحة. كما أن من التشويه والكذب والنفاق ربط مساعدة الفلسطينين بالأمم المتحدة، لأن الجريمة الحقيقية ضد شعبنا هي من الدول التي اقامت الكيان وما تزال تحميه تسلحة وترسله ليعض هنا وهناك (وليس آخر عدوان يُماط عنه اللثام ضرب قافلة في السودان). وليست الجريمة الأساسية في التصويت الشكلي في الأمم المتحدة على التقسيم أو الاعتراف بدولة الكيان. من هنا، فإن المكلف الفعلي بالدفع هم من بنوا الكيان بشكل مباشر (الغرب الراسمالي-المركز) وأنظمة قطريات سايكس-بيكو العربية. أما كيف يجب تحقيق هذا فلا بد من لون من القوة، لون من الخوف. فالأقل حياء بين بني البشر هم رجال السياسة لما ورائهم من مصالح طبقية، فلا رهان على خجلهم، فالمرء من هؤلاء إما أن يستحي أو يخاف [3]!
تحالف القطاع العام المعولم والكمبرادور
سيقول قائل، هذا ما فعله المركز الرأسمالي، وليس هناك من يجبره على تليين موقفه أو تغييره. وهنا ندخل إلى المعادلة الصعبة، وهي المعادلة التي تعيدنا إلى المسألة القومية كمرتكز اساس في الصراع.
هذا الموقف المتبجح والمستكبِر من الغرب مرده ليس إلى الثقافة والفوقية كما يزعم الثقافويون الذين يهربون من التحليل المادي التاريخي ليعفوا انفسهم حتى من كلمة جريئة. وليس مرده إلى عوامل دينية من طراز أساطير هنتنجتون الذي مضى مؤخراً حاملاً في كبده مرارة انهيار العولمة ومرارة عدم تذابح الأمم ثقافيا ودينياً.
هذا الموقف مرده إلى طبيعة أنظمة القطريات العربية. أنظمة الكمبرادور التي تتبع للغرب سيدها ومؤسسها وخالقها وولي نعمتها وحامي وجودها.
يقترب كثير من الكتاب من الاتفاق بأن طبقة عالمية تتكون في العالم في العقود الأخيرة، وكان البعض قد لمس ملامحها حتى قبل هذه الفترة، (ارجيري إيمانويل مثلا). ولكن هذه التكوينات الجديدة تظل مبهمة ما لم تُقرأ على أرضية انقسام النظام العالمي واتحاده في مركز/محيط. وهو نظام من سمته، محاولة تحالف/توحيد الطبقات الراسمالية الحاكمة، وتفكيك وجوب اتحاد عمال العالم. وهي معادلة يمكننا تسميتها الانقلاب على " ياعمال العالم اتحدوا"، ناهيك عن يا عمال العالم وأممه المضطهدة، أو صراخ النسويات الراديكاليات " يا نساء العالم اتحدن" وحبذا لو يفعلن!
هذا التحالف بين الطبقات الحاكمة يتخذ ما اسميته في أكثر من موضع، تحالف القطاع العام الراسمالي المعولم، أي تماسك الطبقات الحاكمة في المركز، وااليوم توسع المقاعد لتجلس خلفها الدول الأربع الصاعدة (روسيا والصين والهند والبرازيل) ودول أخرى، وهذه تتصرف في الكرة الأرضية كما لو كانت قطاعاً عاماً للطبقة الرأسمالية المعولمة مع حفظ المراتب والألقاب، بمعنى أن هناك تحالفاً ومصلحة مصيرية بين راسماليات المركز وتلك التي في المحيط. اي بين راسماليات إنتاجية وأخرى كمبرادورية. هذه هي بنية النظام العالمي قائمة على مركز/محيط، وبشكل محدد على علاقات مركز/محيط بين الطبقات الحاكمة، تبدأ مراتبيا في الولايات المتحدة والثلاثي (معها الاتحاد الأوروبي اليايان) وتتجه سفلياً إلى الدول الوسيطة (الصاعدة أو شبه المركز كما اسماها وولرشتين) إلى أن تصل إلى دول الكمبرادور الفعلي.
تقع الأنظمة العربية في الجزء الكمبرادوري هذا. وإشكاليتها الأساسية أن دورها اقل من إمكانياتها وطبعاً من حقوق الأمة التي تتحكم بها هذه الأنظمة. فهذه الأنظمة مرتبطة بالمركز، بالطبقة العالمية ذات القطاع المعولم إلى درجة أنها لا تجرؤ على التحكم حتى بالفوائض التي بيدها.
بيت القصيد هنا، هو أن هذه الأنظمة العربية، لو كانت ذات توجه استقلالي، حمائي تنموي قومي [4]، لحاولت اليوم، نعم، اللحظة أن تقوم بما يلي:
– الضغط على أميركا والثلاثي، وهم في أزمة مالية/اقتصادية، اي استثمار التراخي على الأقل في القول نحن نريد مساعدة الفلسطينيين ماليا وإنسانيا.
هذا هو الحد الأدنى الذي على هذه الدول القيام به. لكن ما تقوم به هذه الأنظمة هو في الاتجاه المعاكس تماماً، وهذا في منتهى الغرابة، إذا ما حاولنا قراءته على أرضية علوم السياسة والاقتصاد والاستقلال والتنمية وحتى الحقوق الوطنية. فالأنظمة القطرية تقوم اليوم ب:
– التسابق على دعم النظام العراقي، الذي اصبح من قبيل المساومة الاكتفاء بوصفه عميلاً. لقد طار عمرو موسى عراب كل التنازلات العربية إلى بغداد ليبين لأميركا، أن الأنظمة العربية ستحمي ذلك النظام لتريح الجيش الأميركي ممن أهلكوا بدنه.
– واقامت عدة دول سفارات لها في بغداد.
– وزار وزير الخارجية السوري بغداد ليؤكد دعم النظام السوري للنظام العراقي أو على الأقل عدم معاداته، بينما لم يقرأ الفاتحة حتى لروح الشهيد صدام حسين!.
– وقرر رئيس سلطة الحكم الذاتي زيارة بغداد، وكما نشرت صحيفة القدس يوم الخميس ٢٦ آذار (أن هذه الزيارة لأن الدول العربية تقوم بزيارة العراق [5])! لكن الزيارة تأجلت.
– ولم يقم اي من هؤلاء بزيارة قطاع غزة رغم المذبحة.
المثيرفي الأمر أن لا أحداً يحاول إحراج هذه الأنظمة بأن يجادلها: لماذا لا تتعهد بمساعدة الفلسطينيين ولماذا لا تخرج عن الإملاءات الغربية؟ ما من طرف فلسطيني يحاول إثارة هذا المسألة وكشف هذه التقرحات؟ وأعتقد أنه في هذه النقطة بالذات تكمن محاولة التصدي والمقاومة. فالمقاومة لا تنحصر ضد العدو الصهيوني والراسمالي الغربي، بل ايضاً وفي أحيان اساساً وأولاً في مواجهة هذه الأنظمة التي تنفذ إملاءات الأعداء دون أن تغطي نفسها باية ملاءة مراهنة على تخاذل واستخذاء الحزبية العربية ومثقفين عربا تحولوا إلى مخاصي فكرية.
أن نقطة التحدي الحالية على درجة عالية من الأهمية، بمعنى أن:
– المركز الراسمالي وهو عدو بمجمله في أزمة وأن قبضته اضعف من ان تضرب خبط عشواء كما حصل بعد الحرب الباردة
– إن بوسع الأنظمة العربية الضغط لصالح القضية الفلسطينية وبمستوى لا يورطها في صدام مع الإمبريالية.
وهذا الموقف كتجربة يمكن أن يؤدي إلى توسيع دائرة التصدي بحيث يتم جر الموقف الرسمي للاقتراب من الموقف الشعبي. هذا ما يجب أن تبدأ به القوى الشعبية العربية ضاغطة على الأنظمة.
الكيان يستثمر ويسابق اللحظة
إن من يستثمر اللحظة هو الكيان الصهيوني الذي أعد لها "القوة وركاب الخيل" خير إعداد. فقد رفع الشارع الصهيوني إلى الحكم ليبرمان (فتى االبارات سابقاً في أوروبا الشرقية)، ويبدو انه لم يعد مطلوب للكيان استراتيجيين بل بلطجية، ولا فلاسفة بل غيبيين كالحاخام دوف ليور رئيس مجلس رابايات مستوطنات الفضة الغربية، ولماذا يحتاج غير هؤلاء وأمامه عرب الدولة القطرية!. كما رفع نتنياهو لأن هذا الجناح من الصهيونية هو الذي سيدفع عربة اغتصاب الأرض إلى مداها بسرعتها القصوى مستغلا لحظة عجيبة وفارقة:
– لحظة التراخي في المركز والتي لا يعرف أحد اين ستصل، لكن ملخصها أن المركز يهتز، وقد يتحول إلى أحد المراكز، وليس الأوحد، وقد لا تحتضن المراكز الجديدة الكيان كما فعل الحالي، اي كما تم توريث حضانة واحتضان الكيان الصهيوني من بريطانيا إلى أميركا.
– لحظة ان المركز يُضرب بالثورة من خاصرته اليوم، من أميركا اللاتينية، وهناك احتجاجات شعبية في العديد من دول العالم على الأزمة المالية، وهي لا شك البلدان التي احتج مواطنوها ضد مجزرة غزة.
– لحظة احتمال أن تفلت من تحت العباءة النووية دولة مثل إيران.
– لحظة استمرار ركوع القطريات العربية للمركز رغم تراخي المركز (كما كان حال جنود سليمان الحكيم وهو يحكمهم ميتاً وهو متكىء على العصا- إن صحت الرواية التي نأخذ منها هنا الصورة) اي لحظة ما قبل التنبه الشعبي العربي.
من هذه المعطيات يمكننا قراءة حادثة أم الفحم.
فلا اساس لنسب التحدي العدواني لمئة يميني من بين ستة مليون يميني (وثلاثة يساريين أفراداً فقط) حيث قرروا الإعتداء على مدينة أم الفحم لمجرد الإثبات ان هناك "أرض إسرائيل- وإسرائيل/يعقوب مات قبل ثلاثة آلاف سنة، ولا يوجد ما يؤكد أنه كان هنا).
هؤلاء المئة يعبرون بدقة وحذق ومهارة عن وجوب استغلال الكيان لهذه اللحظة التي قد تتغير ولا تتكرر. إن تحركهم مثابة الجرس الذي يقول للكيان: "استثمروا هذه اللحظة إلى أقصاها، واطردوا الفلسطينين من أرضهم في المحتل ١٩٤٨، وفي بقية فلسطين، فهي لحظة قد لا تتكرر". ولذا ليس شرطاً أن يكون تحرك هؤلاء بقرارهم فقط، بقدر ما هو بالون اختبار رسمي. وإلا لماذا كان القرار بحصوله من المحكمة العليا؟ أي من مشايخ الصهيونية؟
ولا إخال أن الأنظمة العربية وسلطة الحكم الذاتي لا يدركون هذا! ولكنهم يشترون الوقت من أجل إضاعة الوقت وليس للاستثمار لاحقاً، إنهم يتصرفون كخاروف العيد بانتظار حلول الكارثة والتعاطي معها ككارثة وليس كتحدي.
فطالما أن هذه الأنظمة ترى في «مبادرتها» أن السلام خيار استراتيجي، فهي ستسامح الكيان بكل ما ينتهز الفرصة ويغتصبه من أرض. هذا هو «هجوم السلام»، فاية بلاغة هذه!.
وعليه، فإن محاولات تنقية الأجواء الرسمية العربية هذه الأيام، هي لترتيب مواقف هذه الأنظمة ضد تحركات الشعب، التي لا بد أن تتجاوز التظاهرات إلى تفكيك مفاصل الدولة القُطرية. إنها إدارة أزمة مزدوجة:
– أزمة مواجهة المواطن العربي بتنسيق بوليسي تحتي .
– وإدارة أزمة مرونة ومهارة عدم التصدي لأي عدوان صهيوني.
والمهمتان ليستا سهلتين لأنهما مكشوفتين. ومن هنا وجوب التماسك الرسمي لدرء اي تحدٍ شعبي.
هذا ما نقرأه اليوم في الذكرى الثلاثين لاتفاق كامب ديفيد، الذي لم يغير النظام المصري من إملاءاته شيئاً، بل اضاف إليها ملاحق تطوعية من جانبه مثل إرغام الفلسطينيين على الاعتراف بالكيان ومحاصرة غزة إلى أن تعترف أو تموت. فليس مطلوب من هذا النظام مقاتلة الكيان، ولكن ليس القتال نيابة عنه!
وهكذا، يوماً بعد يوم، ويمضي الزمن ويتطبَّع الناس على العلاقة مع كيان لا يتوقف نهبه للأرض، ويتطبعون حتى مع نهب الأرض، ويصبح الكيان الصهيوني طبيعيا في الوطن العربي، ويحصل الاندماج الصهيوني المهيمن في الوطن العربي، وتتوقف طرق الحجيج إلى الكعبة، وتصبح تل أبيب عاصمة الوطن العربي. ويتحول الكيان (إسرائيل) إلى حقيقة لصورة شعرية قالها عمر أبو ريشة في معرض الغزل، أجدني أتمثلها في معرض المذلَّة:
طلبت...فأعطى
واشرأبَّت...فانحنى
وقَسَت ... فَلاَنْ
وهذا هو التحدي الأكبر أمام حركة التحرر العربية بمحتلف قواها.
ترِكة الفصائل
قد تكون من «فرادات» الحالة الفلسطينية طبيعة الحركة الوطنية من حيث قابليتها للتكاثر بمتوالية هندسية، وعدم القدرة على تشكيل جبهة وطنية واحدة لا بين اليمين ولا بين العلمانيين ولا بين ما يسمى اليسار ولا بين الإسلاميين ولا بين الجميع بالطبع.
وكأن هذا يقول لنا، أن اهداف هذه القوى هي في الأساس وليس في النهاية أن تصبح دولاً. فلو كان الأمر النضالي هو الدافع الأساس لما كان هذا التشقق بهذه "المبدأية"! وهو تشقق لا تشفع لوجوده تدخلات الأصابع القطرية العربية والإسلامية والعالمية، بل يجب ان تكون من محفزات التماسك الداخلي.
لن أطيل هنا، ولكن النقطة المركزية في هذا السياق هي أن توفر التمويل العربي والغربي والإسلامي تحول إلى وطن للتنظيمات الفلسطينية. وطن مفترض، واصبح تلقي الأموال إكسير حياة وبقاء كثير من التنظيمات. فغياب السيادة، وغياب الوطن استبدل بحضور الأموال التي "تستحق" الاقتتال عليها. والتي سمحت وتسمح ببقاء هذه التنظيمات.
بالأصابع المذكورة، والأموال المنثورة، دخل الفلسطينيون في الأرض المحتلة لعبة "الكنيست الثانية -الانتخابات لمجلس الحكم الذاتي". وفي حين رفض اليسار والإسلاميون الجولة الأولى، هرولوا إلى الثانية. وصار التنافس على "الديمقراطية" تحت الاحتلال أمراً عادياً. وبالتحديد تورطت حركة حماس في هذا المستنقع. ولم تخرج ولن تخرج منه. هذا كان ما تصبو إليه أميركا والغرب، أن يدخل أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين مطهر التسوية، وبعدها نعرف كيف نتعامل معهم وهم في المصيدة [6].
ربما ليس هذا وقت مناقشة الأمر طالما حماس تقاوم، وهذا صحيح. ولكننا على ابواب الجولة الثالثة للانتخابات والتي تتزامن مع المشروع الرسمي (الفلسطيني والعربي والدولي) لإنهاء القضية بتثبيت الكيان مندمجا اندماجا مهيمنا في الوطن العربي. وهذا يجعل رفض الانتخابات درجة المقاومة الأولى للخطر المقبل. ولن يكون قلب الطاولة إلا بموقف رافض لأية انتخابات سياسية تفاوضية.
لا شك ان حماس في مأزق اليوم. مأزق منع دخول اي شيء إلى غزة ما لم تعترف بالكيان. ومأزق الخوف على قادتها ومقاتليها وعناصرها إن هي اعتزلت السياسة وتركت السلطة، ومأزق عدم تقديم نموذج اجتماعي سياسي في غزة أعلى من النماذج السلفية وهو نموذج لا يشفع له سوى كونه مقاوماً.
ولعل المخرج هو في مأزق آخر، وهو أن الشارع العربي وقواه السياسية ما تزال أقل من الضغط على الأنظمة لإنقاذ غزة، والذي فيه إنقاذ حماس والقضية برمتها، وهنا الحد الأدنى المطلوب هو الإنقاذ المعيشي، لا نقول (لا سمح الله) ارتفاع هذه القطريات إلى التحرير!
في كافة الأحوال، أعتقد أن على الشعب الفلسطيني كي يحمي القضية من الضياع، وكي لا يساهم، عبر إعادة الهندسة وإعادة التثقيف واستلاب التثقيف والثقافة، أن لا يشارك في الانتخابات قط. وأن يستفز الشارع العربي مجدداً ومباشرة للضغط على حكامه، ولكن كيف، بالبدء بضرب مفاصل الدولة القطرية.
كنعان النشرة الألكترونية
السنة التاسعة ـ العدد ١٨٤٥
[1] في أكثر من بلد عربي هناك تشريعات لبيع الاراضي لليهود!
[2] والسيد أحمد قريع إذا صح ما نُسب إليه، هو الذي وقع اتفاق باريس الاقتصادي عام ١٩٩٥ مع الكيان وكان الاتفاق رمادياً بشكل مطلق، وهو نفسه الذي تحدث عشرات المرات عن وجوب تعديل هذا الاتفاق خلال السنوات من ١٩٩٥ وحتى اليوم، ولم يتعدل سطر واحد!
[3] حين تعرض عمر بن ابي ربيعة، ذلك الماجن بالمطلق، لزوجة أبو الأسود الدؤلي في الطواف ببيت الله الحرام، وكانت الزوجة جميلة وابو الأسود فارساً، رافقها زوجها في الموسم الثاني، فلما رآه عمر بي أبي ربيعة، انزاح جانياً، فداهمه أبو السود قائلاً:
|تعوي الكلاب على من لا أسود لهُ||وتتقي صولة المستاسد الضاري.|
[4] لقد جادلت كثيراً، وما زلت مقتنعا، (بشكل خاص في كتابي: دفاعاً عن دولة الوحدة وإفلاس الدولة القُطرية) أن في كل أمة مدرستين في القومية، واحدة للطبقات الحاكمة (القومية الحاكمة) وأخرى للطبقات الشعبية (القومية الكامنة) . ويظهر الفارق بل التناقض بينهما في البلدان الخاضعة للاستعمار بمختلف اشكاله حيث الطبقة الحاكمة ترفع الشعار القومي لكنها تمارس عكسه، وأما الموقف القومي الحقيقي فهو للطبقات الشعبية، كما في الأمة العربية، حيث هي طبقات وحدوية واشتراكية. وكلما كانت الأمة مستقلة وإنتاجية تتقارب مواقف الطبقات، اي القومية الحاكمة للبرجوازية والقومية الكامنة للطبقات الشعبية لكنها لا تتطابق. ربما أفضل دليل ما حصل في أميركا في حقبة العولمة، فقد جرَّت الطبقة الحاكمة أميركا إلى مذبحة العراق، وحينما تأزم الإقتصاد قامت الطبقة الحاكمة بسرقة أموال الشعب.
[5] نكتشف هنا أننا أمام مدرسة عربية في التبرير تستحق التحول إلى مساق اكاديمي للدراسات العليا. فحين قررت منظمة التحرير، قيادة هذه المنظمة، الاعتراف بالكيان الصهيوني قالت (القومية الحاكمة في القطريات العربية) نقبل ما يقبله الفلسطينيون!. أما حينما كان الفلسطينيون يقاتلون، لم تقل الأنظمة هذا، ولذا تقف ضد غزة. واليوم يقول الفلسطينيون ما معناه، ما تقبل به الأنظمة العربية تجاه العراق نقبل به! أليست مدرسة القطرية واحدة؟
[6] حين عرض عليّ أحد الإخوة في حماس دخول التشريعي معهم، قلت، من بين ما قلته له، انه بوسع الكيان منع الهواء عن حكومة لا ترضيه. وها نحن نجد ان القطريات العربية نفعل ذلك ضد حماس نيابة عن الكيان.