Middle East Watch
La revue de presse alternative pour un Moyen Orient libre
© George – Aralık 2024
الأحد 26 رجب 1438, بقلم
كل اصدارات هذا المقال:
انفجرت في أوج المشادَّة القائمة في لبنان حول معمل الإسمنت المنوي إقامته في جوار بلدة عين دارة، والذي يقوم ببنائه هناك آل فتوش، بكلفة قيل إنها تصل الى ٥٠٠ مليون دولار، هي عملياً مشادة بين النائب وليد جنبلاط والنائب نقولا فتوش، مما عرقل العمل في بناء المعمل، انفجرت فضيحة عالمية حول معمل الإسمنت السوري الذي كانت تملكه شركة الإسمنت السورية «لافارج» بالقرب من مدينة حلب في شمال سوريا، بسبب مساهمة الشركة الفرنسية في تمويل تنظيم «داعش» الإرهابي وغيره من المنظمات المسلحة في الشمال السوري الخارج عن سيطرة الدولة. والمعمل السوري هذا يقع الآن تحت سيطرة القوات الخاصة الأميركية التي بدأت تتوافد الى شمال سوريا منذ نشوب المعركة الحاسمة في «كوباني » (عين العرب) بين القوات الكردية وبين مسلَّحي «داعش» الذين حاولوا الاستيلاء على تلك المدينة في أيلول/سبتمبر من عام ٢٠١٤ ولم يُفلحوا. وفي ذلك الوقت تحديداً، أي في أيلول/سبتمبر من عام ٢٠١٤ أوقفت شركة «لافارج» الفرنسية معمل الإسمنت المذكور.
وبسبب الأزمة القائمة حالياً في لبنان بسبب معمل آل فتُّوش في عين دارة مع النائب وليد جنبلاط، حاول «الديبلوماسي» تقصِّي تطورات تلك الأزمة، فتبيَّن من التحقيقات الصحافية أن هناك رابطاً ما بين موضوع معمل الإسمنت اللبناني الجديد وبين اتساع الحملة الأوروبية التي بدأتها منظمات حقوق الإنسان الفرنسية خلال الأشهر الماضية، بشأن تعامل شركة «لافارج» مع المنظمات الإرهابية في شمال سوريا بهدف إبقاء معملها شغَّالاً بالقرب من حلب، وهو معمل طاقته الإنتاجية تصل الى ثلاثة ملايين طن من الإسمنت في السنة، مع مواد بناء أخرى.
ويستفاد من ذلك، حسب مصادر أوروبية متابعة، أن مساهمين في شركة الإسمنت الفرنسية «لافارج »، بعدما لاح لهم الخطر الناشىء من تفاقم الأزمة السورية بعد عام ٢٠١١ ، تفاهموا فيما بينهم على ثلاث خطوات بدأ السير فيها بالتوالي، وبالتزامن، مع التطورات السورية واقترابها من معمل حلب. وتشمل تلك الخطوات حسب المصادر الأوروبية المشار اليها:
أولاً، دمج الشركة مع شركة عالمية أخرى لحمايتها من تبعة قرار بعض مدرائها في باريس التعامل مع المنظمات الإرهابية في شمال سوريا، وهو أمر برَّره المدراء، وعلى رأسهم المدير العام برونو بيشو، بضرورة استمرار تشغيل المعمل في منطقة خرجت عن سيطرة الدولة السورية، وهذا يقتضي حماية العمال والموظفين من عمليات الخطف، ومن تعديات المنظمات المسلَّحة. وقد تم ذلك بعد إقفال معمل حلب مع الشركة السويسرية «هولسيم»، فصار اسم الشركة الجديدة «لافارج هولسيم».
ثانياً، الاعتراف العلني بالتعامل مع المنظمات الإرهابية للحدِّ من مخاطر تفاقم الأزمة إعلامياً، وكشف الدوافع والمسؤوليات في محاولة للحدِّ من الأضرار المادية والمعنوية التي قد تلحق بالشركة. وعندما اعترفت الشركة، بعد اندماجها مع «هولسيم» السويسرية، بما قامت به في سوريا سابقاً، وصفت تلك التصرفات بأنها «غير مقبولة»، ولاسيما أن تعاطيها مع الإرهابيين في الشمال السوري استمر قرابة ثلاث سنوات (من نهاية ٢٠١١ الى نهاية ٢٠١٤).
ثالثاً، ليس بمقدور الشركة، وخاصة بعد الاندماج مع شركة كبرى أخرى، أن تتخلَّى عن السوق السوري المقبل على أكبر عملية إعمار دولية منذ الحرب العالمية الثانية، وبالتالي، لا بدّ من إيجاد صيغة ما لإقامة معمل جديد للإسمنت في مكان آمن وقريب من سوريا. وفي هذه الحلقة دخل آل فتوش (وربما بدعم من جهات سورية أيضاً) على الخط وبدأت تتكشف تفاعلات إنشاء معمل عين دارة من خلال محاولات التعطيل التي يقوم بها النائب وليد جنبلاط.
وقبل الدخول في تفاصيل وتعرُّجات هذه المسألة على المسرح الأوروبي، وعلى المسرح السوري، ثم على المسرح اللبناني، لا بدَّ من الوقوف على رأي المجموعة السويسرية الفرنسية الجديدة في إرثها السوري.
تقول مجموعة «لافارج هولسيم» المتشكلة حديثاً بشخص مديرها التنفيذي إريك أولسن، إنها فتحت تحقيقاً داخلياً (أي داخل الشركة)، حول عمليات لافارج في سوريا قبل اندماجها مع «هولسيم» السويسرية في عام ٢٠١٥ . وأن هذا التحقيق نتج عن دعاوى قضائية أقامتها منظمات حقوق الإنسان في فرنسا ضد شركة لافارج خلال السنة الفائتة متهمة إيَّاها بإقامة علاقات تجارية مع «داعش»، وبتمويل الإرهاب. لكن أولسن قال أيضاً إن المتداول الآن ما هو إلاَّ عناوين أوَّلية، ووعد بأنه سوف يتخذ «كل الإجراءات اللازمة» حالما يصدر التقرير الكامل المتضمن للتحقيقات النهائية. وكشفت مصادر أخرى في المجموعة السويسرية الفرنسية، عن وجود ما أسمته «أطراف ثالثة» كانت تتولى عقد الترتيبات مع المنظمات المسلحة في شمال سوريا، والأهم من ذلك حسب تلك المصادر، قولها أن تلك الترتيبات شملت أيضاً «أطرافاً مجازاً لها » من غير توضيح من هي تلك الجهات المجاز لها، وأن الهدف من ذلك هو إبقاء معمل «جلابية » في شمال سوريا شغَّالاً، وتأمين سلامة العمال والموظفين، وتأمين الإمدادات وتصدير المنتوجات.
ورأت المجموعة أن التحقيق لن يؤثر مالياً على وضع المجموعة الجديدة، وأنه ليست هناك دلائل على ذلك. فقد أظهرت نتائج العمليات للسنة الفائتة، ٢٠١٦ ، زيادة في العائدات بنسبة ٨٫٧ ٪ لتصل تلك العائدات الى ٥٫٨ مليار دولار. وتملك المجموعة الآن ٢٥٠٠ معمل للإسمنت ومواد البناء في ٩٠ دولة حول العالم، مما يجعلها أكبر الشركات العالمية في هذا المجال، ويبلغ عدد عمالها وموظفيها حول العالم نحو ١٢٠ ألف شخص.
فكيف بدأت قصَّة معمل الجلاَّبية للإسمنت في شمال شرق سوريا على بعد نحو ١٥٠ كيلومتراً عن مدينة حلب، وكيف وصلت الى ما وصلت اليه مروراً بالفرنسيين وانتهاءً بالأميركيين؟
بدأت القصة بتأسيس «شركة إسمنت سوريا» بين الضابط السابق في الجيش السوري فراس طلاس، نجل وزير الدفاع الأسبق مصطفى طلاس في عهد الرئيس حافظ الأسد، وبين رجل الأعمال المصري المعروف نجيب ساويرس وشقيقه ناصيف ساويرس مدير «شركة أوراسكوم لأعمال البناء». وأثناء بناء المعمل في جوار بلدة «الجلاَّبية » الواقعة بين مدينة «راس العين» ومدينة عين العرب» (كوباني) الكردية، جرت عملية اندماج بين «أوراسكوم» المصرية للبناء، وبين شركة «لافارج» الفرنسية للإسمنت بموافقة الدولة السورية. ومن غير المؤكد تماماً ماذا حلَّ بحصة فراس طلاس الذي انشق عن الجيش السوري وفرَّ الى المملكة السعودية ومنها الى فرنسا. فهناك من يقول أن طلاس باع حصَّته الى «أوراسكوم» قبل صفقة «لافارج»، وهناك قول أن وزارة الصناعة السورية وضعت يدها على حصة طلاس بعد فراره من البلاد.
ويُستدلُ من المراسلات بين مسؤول الشركة في سوريا (وهو سوري يُدعى ممدوح الخالد)، وبين المدير العام في باريس برونو بيشو، بأن الشركة الأم في باريس كانت على بيِّنة على كل التعاملات التي جرت مع التنظيمات الإرهابية طوال السنوات الثلاث السابقة لاندماج الشركة الفرنسية مع نظيرتها السويسرية، وأن تلك التعاملات كانت أوسع نطاقاً مما هو ظاهر، وأن مشاورات جرت حول كيفية التغطية على تلك التعاملات في حال انكشافها لدى السلطات السورية الشرعية في دمشق، وكيفية تبريرها. وتبيَّن لاحقاً أن تلك التعاملات لن تقتصر على دفع أموال الى الإرهابيين لقاء تسهيل مرور شحنات الإسمنت الى خارج المنطقة المسيطر عليها من قبل التنظيمات المسلَّحة، ولا على دفع الخوَّات لقاء إطلاق سراح بعض المخطوفين من عمال وموظفي الشركة، بل شمل أيضاً شراء كميات من النفط السوري غير الشرعي من تنظيم «داعش » المسيطر في ذلك الوقت على حقول النفط من ريف حمص الشرقي شمالاً، ومبادلة إسمنت معمل «جلابيَّة» بالنفط والوقود مع «داعش»، واستبدال الموظفين والعمال الموالين للنظام السوري بعدد من العمال والموظفين المقبولين من داعش، وشمل ذلك بالدرجة الأولى، حسب بعض المصادر السورية، العمَّال والموظفين المنتمين الى الطائفتين العلوية والشيعية، وبعض السنَّة الموالين للنظام.
ومما لا شك فيه، حسب المراسلات المشار اليها بين الشركة الأم وفرعها السوري، بأنه كان هناك شعور بخطورة الأمر من جانب المسؤول السوري عن معمل «جلاَّبية » الذي بعث يوم ١٣ تموز/يوليو من عام ٢٠١٤ برسالة الى المدير العام في باريس برونو بيشو، حذَّر فيها من مغبَّة شراء النفط غير الشرعي من المنظمات غير الحكومية في المناطق الواقعة خارج سيطرة الدولة السورية. وفي اليوم التالي تحديداً، وهو يوم عطلة العيد الوطني الفرنسي في ١٤ تموز/يوليو ٢٠١٤، رد المدير العام على تلك الرسالة معترفاً بخطورة المسألة وبالموقف الحرج المترتب عليها في حال انكشافها، ناصحاً المدير السوري بأن يغطِّي عمليات الشركة الفرنسية مع الإرهابيين بإبلاغ السلطات السورية الشرعية في حال علموا بالموضوع وأثاروه، بأن «لافارج» عملت جهدها للحصول على الوقود الشرعي، لكن الأحوال الأمنية حالت دون ذلك، واستفسار السلطات السورية عن مصير الطلبات التي تقدمت بها «لافارج» للحصول على الوقود المطلوب من مصفاة حمص. وهذا ينبىء بتفكير مسبق على أعلى المستويات في إدارة الشركة الفرنسية بطريقة لتبرئة نفسها والتغطية على ما قامت به.
ثم تغيَّر الوضع كلياً عندما نشبت معركة «كوباني» بين القوات الكردية وبين تنظيم «داعش» الذي حاول الاستيلاء على تلك المدينة بدعم تركي من وراء الستار، مما دفع إدارة الشركة الفرنسية الى إغلاق معمل «جلاَّبية»، خصوصاً بعد بروز موقف أميركي داعم للأكراد على الأرض، والهزيمة المدوِّية التي مني بها التنظيم الإرهابي، فصار موقع معمل الإسمنت نتيجة تلك المعركة تحت سيطرة القوات الكردية في شهر شباط/فبراير من عام ٢٠١٥، وبدعم من التحالف الغربي بقيادة الولايات المتحدة التي أرسلت الى هناك بضعة مئات من القوات الخاصة في الجيش الأميركي.
وقد سيطرت القوات الخاصة الأميركية على معمل الإسمنت وجعلته قاعدة لعملياتها العسكرية في الجزء الشمالي من سوريا. وتبين خريطة الموقع المعمل الذي تسيطر عليه القوات الأميركية الخاصة الآن ، بأن الأميركيين أقاموا على ذلك الموقع أربع منصات لطائرات حربية خفيفة من مختلف أنواع المروحيات، بينها منصة لطائرات «ڤي ٢٢ - أوسبري» المتعددة الأغراض. منصتان منهما في الجهة الجنوبية لمروحيات «آباتشي» و مروحيات «تشينوك»، واثنتان في الجهة الشمالية لمروحيات «بلاك هوك» وطائرات «ڤي ٢٢ - أوسبري». وهذه الطائرات الأخيرة متعددة المزايا والمهمات. فهي تستطيع الإقلاع والهبوط عامودياً كالطائرات المروحية، وكذلك الإقلاع والهبوط بسرعة على مدارج قصيرة، وتستطيع في الوقت ذاته أن تطير بسرعة فائقة شأن الطائرات النفاثة وعلى مسافات بعيدة لا تقوى عليها المروحيات. وقد تم تطوير هذه الطائرة وبرزت حاجة الجيش الأميركي بعد فشل المروحيات التقليدية في عملية «مخالب النسر » التي جرت في إيران كمحاولة لإطلاق الرهائن الأميركيين المحتجزين هناك عام ١٩٨٠.
وبعد شطب معمل «جلاَّبية» من المعادلة بالاحتلال الأميركي له، وربما منذ بداية الأحداث السورية، بدأ التفكير بإقامة معمل آخر يغطي سوريا من خارجها، لكن بقربها وجوارها. وليس من قبيل المصادفة، كما تقول المصادر المتابعة لهذا الموضوع، أن الضجَّة المثارة حول معمل آل فتوش في لبنان قامت في الفترة ذاتها التي رافقت متاعب المعمل الفرنسي في سوريا.
قد يكون، وقد لا يكون، لآل فتوش علاقة سابقة مع «لافارج» الفرنسية، حيث ظهر بعض الهمس بأن معملهم المزمع إنشاؤه في محيط بلدة عين دارة الواقعة في قضاء عاليه، حيث للزعيم الدرزي وليد جنبلاط سيطرة ومهابة، فضلاً عن أن جنبلاط يملك معملاً للإسمنت ورثه عن والده كمال جنبلاط، هو معمل سبلين في قضاء الشوف، هو واجهة للشركة الفرنسية السابقة.
ويستند القائلون بذلك، الى ضخامة رأس المال المخصص لمشروع آل فتوش في عين دارة، وهو يزيد على ٥٠٠ مليون دولار. كما يستندون الى الواقع الإنتاجي المرتقب في لبنان حيث سيصبح هناك ثلاثة معامل للإسمنت يفوق إنتاجها حاجات لبنان والعالم العربي. يضاف الى ذلك، همس خافت بأن غاية معمل عين دارة هو تلبية حاجات إعادة إعمار سوريا بعد الحرب المدمرة الجارية هناك، وتبعاً لذلك لا بد من وجود ضلع سوري في المعادلة. أو ربما كانت غاية آل فتوش من العملية، بيع المعمل بعد إنجازه الى شركة عالمية، هي قطعاً الشركة الفرنسية - السورية الجديدة، وتحقيق ربح مالي كبير من الصفقة على غرار ما جرى لشركة الإسمنت السورية، طلاس - ساويرس مع «لافارج » سابقاً.
ويبدو من تصرفات وليد جنبلاط حيال معمل آل فتوش أن لعابه قد سال لأنه وجد في ذلك فرصة سانحة يتجاوز بها حرمانه من نصيب معمله في سبلين من الكعكة السورية بسبب خياراته السياسية حيال الأزمة في سوريا، بعدما كان النظام السوري قد منحه فرصة ثانية للعودة الى الصف فلبطها. ويُستدل على سيلان لعاب جنبلاط على وليمة فتوش المشار اليها، من خلال مطالبه غير المقبولة، كما وصفها بعض الزحليين العارفين بالمداخل والمخارج، أو القالعين أضراسهم فيها.
فقد تقدَّم الزعيم الجنبلاطي «الفجعان»، باللغة الزحلية، بخيارين أحلاهما مرُّ: الخيار الأول أن يمنحه آل فتوش حصة ١٠ ٪ من المشروع ليكف شرَّه عنهم، والخيار الثاني، أن يقوموا بتعبئة الإسمنت الجنبلاطي من معمل سبلين في أكياس معمل آل فتوش في عين دارة وإرساله الى سوريا حيث يسري الحظر على أكياسه.
طبعاً، لا مانع لدى آل فتوش من توظيف مئات العاملين من انصار جنبلاط، وقد أشاروا الى ذلك بقولهم إن معملهم سوف يخلق آلاف فرص العمل. لكن ذلك ليس مطلب جنبلاط. هو يريد شيئاً «حرزاناً» لنفسه. وما يطلبه جنبلاط لنفسه لا يستطيع آل فتوش إعطاءه. وقولهم، رداً على المطلب الجنبلاطي بالمشاركة، أنهم لا يستطيعون مشاركة أحد، له دلالة أيضاً توحي بوجود «سلطة على المشروع فوق سلطة آل فتوش»، كما قال أحد الزحليين ل «الديبلوماسي». ربما كانت تلك «السلطة» المشار اليها، سلطة الحكومة السورية، وربما كانت سلطة شركة عالمية معنيَّة!
والمعركة ما زالت جارية، شأنها شأن الحرب الدائرة في شمال وشرق سوريا، والدخول الاميركي فيها من قاعدته في معمل «جلاّبية » للإسمنت!
الديبلوماسي، العدد ١٤٧، نيسان/ابريل ٢٠١٧، السنة ٢١